مصر تعيش اليوم على وقع «وثيقة السلمي». وثيقة تختصر صراعاً بين متسلطين، عسكري وايديولوجي. هذا ما يريده الحكام الجدد من الثورة، تحويلها من تحرّر إلى تسلّط، لاستعادة جمهورية الضباط وإعادتها إلى ما قبل تولّي حسني مبارك للسلطة

وثيقة السلمي: صراع بين الجنرال وطالبان



في انتظار الاقدار تهبط من أعلى، هبطت فخاخ جديدة. وثيقة دفع المجلس العسكري نائب رئيس الحكومة لتتسمى باسمه، ليبعد بكيانه عن الجدل.
انه فخ فعلاً. السؤال نفسه فخ: هل توافق على وثيقة السلمي ام ترفضها؟ الارتباك الحقيقي ليس لأن الوثيقة مرفوضة كلباً، بل لأنها تأتي بعد سياق من قمع الحريات من المحاكم العسكرية الى السيطرة على الاعلام وبث رسائل معادية للثورة.
الوثيقة تضم قواعد ومبادئ اساسية في اطار بناء جمهورية جديد... وهذا ليس موضوع الخلاف. الموضوع الاساسي أن الوثيقة تضع الجيش فوق الدولة، وليس حامياً للدستور، وكأن على مصر أن تمر بمرحلة تركيا حين لم يكن هناك مجتمع سياسي ولا قوى تدافع عن نهضة تركيا بعد عثرة الخلافة الا الجيش.
الموديل التركي لا يصلح هنا لأنه قديم ويعبر عن وضع سياسي تتجاوزه مصر الآن، فالتغيير تم بفعل ثورة شعبية سلمية، وليس بقوة الجيش ولا سيطرته
على الدولة بعد انهيار الخليفة الأخير. التغيير لم يصنعه الجيش، بل الشعب. وهنا لا بد من أن يعبر الدستور عن قوة المجتمع لا عن قوة الجيش في حماية الدولة. والفارق كبير، لأن بناء الدولة على قوة المجتمع يفتح الأفق الديموقراطي، بينما وجود الجيش سيعيد ظل الدولة التسلطية بكل ما يحمله هذا الظل الثقيل من ممارسات متعددة القمع.
ولهذا فإن منح الجيش وصاية علوية هو قفزة أو اختطاف للثورة، وكأنها لم تقم من اجل تغيير شكل الجمهورية بل من أجل ترميم جمهورية الجنرال بعد تحسينها بقليل من الكلام عن فساد مبارك مبارك وحاشيته. الجيش لا يريد عودة مبارك، لكنه لا يريد الديموقراطية، ولا بناء نظام جديد يبني على الحريات لا على القمع.
الجيش والاسلاميون يتصارعان الآن على من له الحق في القمع، وإغلاق المجال السياسي الذي حررته الثورة، وهو صراع يمثل التحدي مع القوى المدنية بنحو واسع، ومع القوى الاسلامية التي تميل الى العقلانية والحداثة. الاسلاميون يشعرون بأن الجيش يحرمهم فرصة خطف الدستور، واللعب بالغالبية البرلمانية المتخيلة للانفراد بكتابة الدستور الجديد.
الاسلاميون، او اصحاب الصوت العالي منهم، كشفوا عن نزعة تسلطية، كما ان هناك علمانيين في الدولة كشفوا عن التسلطية نفسها عندما اختصروا الاسلاميين في هذا التيار الذي تغويه الدعاية التلفزيونية، وصدمات اكتشاف ان هذه النوعية من التفكير تعيش في القاهرة وليست في تورا بورا. الثورة منحت تنظيمات تورا بورا جسارة العمل العلني. هذه التنظيمات تحالفت مع الجيش وتصورت أنها بتأييدها المطلق له سيفتح لها الطريق لخطف الدولة.
هذه التصورات صنعت مجالاً للخوف بين القوى الديموقراطية والاسلاميين، وهو ما صنع فخ الوثيقة: «وافقوا على وثيقة السلمي.. لكي يوقف الجيش زحف الاسلاميين». منطق رائج ومبرر بين قوى ديموقراطية وثورية تشعر بالخديعة من موقف بعض التيارات الاسلامية التي مارست بعد الثورة سلطوية لا تقل ضراوة عن سلطوية المجلس العسكري، بل وتزيد لأن قمعها يهدد الحياة اليومية.
هل نقبل بالجيش ليحمي الثورة من الاسلاميين ورغبتم في توزيع القمع بمثالية يضعون عليها لافتة الدين.. ام نرفض الوثيقة بدون توافق يكشف مدى معرفة الاسلاميين أن تصوراتهم عن خطف الدولة وهم في ظل وجود الجيش، وان الحل هو القبول باستمرار الثورة في تحرير المجال السياسي، لا في اغلاقه من جديد على يد جماعات لا تملك تحقيق اهدافها عملياً، ولن تفعل شيئاً سوى اعطاء مبرر جديد للعسكر بتعطيل الديموقراطية والغاء السياسة؟
القوى الديموقراطية أو المدنية لا تعاند القوى الاسلامية لأنها متدينة، بل لأنها تمارس التسلط والوصاية مثلها مثل الجيش وكل جمهورية الجنرالات. وتبدو الازمة المكتومة الآن بين الجيش والاسلاميين هي صراع بين مشروعين للتسلط. والوقوف بين الجنرال و«طالبان» يأتي بالتمسك بقيمة الحريات وخاصة الحريات الفردية، فكيف تدعو فرداً ليضع ارادته الحرة في صندوق الانتخابات وأنت تحاصره بفتاوى تحريم الديموقراطية وتكفير من يمنح صوته للعلمانيين؟
تأييد المجلس العسكري في معركة الوثيقة خسارة جديدة للقوى الديمقراطية وتأجيل للثورة، وتعطيل لمسار بناء الدولة الحديثة، وهزيمة امام قوى طالبان التي سريعاً ما ستتحالف مع اجهزة القمع، كما فعلت مع امن الدولة وستفعل مع اية اجهزة تحاصر الحريات.
يبدو الجيش من الوثيقة في حالة انتقام من مبارك، وبالتحديد في العشر سنوات الاخيرة، حين ابعد الرئيس المخلوع الجيش عن الاقتراب من كرسي السلطة. مبارك لم يجد سوى اصحاب المال، او الذين رباهم في مزارعه، ومنحهم تراخيص جمع الثروات. ليست غالبية «رجال الاعمال» مافيا، لكن قانون المافيا كان السائد، بقيمه وطبيعة اعماله التي تخلق الولاء لمن يدير ماكينة الفلوس، لا في النشاط الاقتصادي او البناء. وهذا غالباً ما كان وراء قوة الجناح العائلي في سنوات مبارك الاخيرة، حيث لعبت الزوجة وولداها دوراً في مد خطوط القوة بين الرئاسة والجناح المالي في مواجهة الجناح العسكري.
والمجلس العسكري رأى الثورة في هذا السياق: انتصاراً لجناحه مقابل هزيمة الجناح العائلي، الذي امتص كل امكانات اصحاب الثروات لخدمة مشروع تصعيد جمال مبارك الى السلطة. المجلس لم يتعامل على ان الثورة تغيير او عقد اجتماعي يبني جمهورية جديدة تقوم على الديموقراطية والحريات، بل تصورها استدعاءً له من الشعب وتفويضاً بإعادة الاوضاع كما رسمتها عقلية الجنرالات بعد يوليو ١٩٥٢.
يتصور المجلس ان هذه هي الدولة، ولا دولة غيرها. لا يريد المجلس ان يحكم، لكنه يريد ان يتحكم، وهذه المرة بالدستور، لا بالسلطة المعنوية لجنرالات يوليو، ويريد اساساً ألا يسمح لأحد بالمساس بميزة التحكم. وهذا هو سر المادة ٩ من الوثيقة المرتبطة باسم الدكتور علي السلمي.
المادة تقر انفراد الجيش بميزانيته وبحق التشريعات الخاصة بالقوات المسلحة، وهو وضع يضع الجيش في موقع وصاية او «دولة» داخل الدولة. كيف يمكن ان يحكم رئيس او حكومة في ظل وصاية الجيش؟ هل يريدون رئيساً ضعيفاً وحكومة تنظر الى بوصلة وزارة الدفاع قبل اتخاذ اي قرار؟ الاجابات كلها تكشف عن رغبة في اعادة ترميم جمهورية التسلط، وهي رغبة لم تكن معلنة بهذا الوضوح الا بعد خطوات سابقة صنعت فيها فوضى سياسية وأمنية برعاية المجلس العسكري، وتصور من صنع هذه الفوض انها ستجعل من القوى المدنية والثورية وكل المجتمع يهرول اليه مستغيثاً: أنقذنا مما صنعت يداك.
يتصور المجلس ومستشاروه ان البند ٩ سيمر، لكي ينقذ الجيش الدولة من تيار في السلفيين لا يخفي تخطيطه لخطف الدولة. تيار لا يخفي نزعته الى تحقيق احلامه، التي فشلت بالارهاب، عبر ديموقراطية يلغيها في لحظة تمكنه من السلطة. هذه هي الفزاعة التي تصور للمجلس انها ستصف خلفه كل القوى المدنية والديموقراطية والثورية. لكن الفزاعة لا تعمل جيداً، ليس لأنها لا تثير الفزع، بل الرغبة والحلم ببناء جمهورية ديموقراطية اكبر بكثير هذه المرة من الخوف من تيارات خطف الدولة وتحويلها الى طالبان. الثورة لا تزال روحها قوية بحيث لا تقع في فخ الاستقطاب بين الثكنة والكهف.

كلنا «ألتراس»



في مصر ظاهرة قديمة ــ جديدة كان لها شأن كبير في نجاح الثورة المصريّة. «الألتراس» أكبر من مجموعات مشجعي كرة القدم، فهم أصحاب تصوّرات معادية للسلطة، كل سلطة، لا تلك التي كانت تحاربهم باسم حسني مبارك حصراً
وصل صوتهم إلى جماهير المشاهدة التلفزيونية، رغم أنهم يغنّون من خارج أسوار الملعب. هم محرومون من المشاهدة، لكنهم لم يحرموا فريقهم من مساندتهم. هم في حرب خاصة مع السلطة ويبحثون عن المتعة، والكرة «للجماهير موش للعسكر يا مشير»، مثلما كتبوا على لافتاتهم الضخمة أو ما جاء في بيانات وجههوها للمجلس العسكري الحاكم، وأكدوا فيها أن الرياضة هي لـ«إمتاع الجماهير لا لتوجيه الشعوب إلى معانٍ وأبعاد سياسية من قريب أو بعيد». هم طليعة قوى تفكّك السلطة من زوايا جديدة، من زوايا المتعة والبحث عنها.
ولأنّ السلطة ضدّ المتعة، أو مانع لها، فهم يفكّكون سلطانها. إنهم سكّان الركن المنسي من المدرجات، الباحثون عن متعة حقيقية بدون صناعة تبيع كل شيء لمن يملك فقط. هم الجمهور الذي أصبح نجماً أكبر من النجوم، والمهووسون الباحثون عن اللعب إلى الأبد. إنهم «الألتراس» (مجموعات من مشجعي كرة القدم لديهم تصوّرات معادية للسلطة)، والعشاق المتيمون باللعبة، لا للماكينة التي حوّلتها إلى صناعة رأسمالية لا يقدر على الاستمتاع بها إلا من يملك ثمن التذكرة. «الألتراس ليسوا فقراء، لكنهم يبحثون عن متعة خالصة التهمتها ماكينات ضخمة مضغت كل هذه المتعة وحوّلتها إلى بضاعة غالية تحقّق الأرباح الخرافية، بينما المتعة أصبحت أقل. الجنون بالمتعة الأصلية ليس كل ما لدى الألتراس، فهم يريدون أيضاً الخروج عن سلطة السوق التي أصبحت تحدّد كل شيء، وتصنع آلهة اسمها نجوم الكرة، وتجعل من اللعبة ببساطتها وحشاً كبيراً ممنوع الاقتراب منه إلا عبر «مروّضي الوحش» من تجّار وسماسرة وإدارات واتحادات وشركات، إلى آخر هذه المافيا التي لا يهمّها المتعة مقارنةً بتدوير ماكينة الأرباح. «الألتراس» ضدّ السلطة التي تحمي هذه الماكينات بكل ما لديها من أدوات قهر وسيطرة. إنهم ضد التيار ويبحثون عن متعة قديمة ويتوحدون بلون قميص فريقهم، وبقوة تجمعهم. هذا بعض ما عرفته عن «الألتراس»، وكنت أراهم مجموعات فاشية تُدار بمنطق العصبة المتجمّعة حول زعيم أو مجلس زعماء، ويقودون كل معارك تدمير أشكال السلطة من الأمن المركزي إلى ادارة النادي. خيالهم هو سرّ نجاحهم، هذا ما قد تكتشفه بعد صدمة اقترابهم من الفاشية، وتكتشف أيضاً أنهم مثل كل التجمعات المضادة للسوق، تحكمهم علاقات وروابط مخيفة، لأنها لا تلتزم بقوانين أصبح متعارفاً عليها ولو كانت ظالمة. العمّال الباحثون عن متعة الكرة في ايطاليا تقريباً هم أول من قرروا تحويل الركن المنسي في الملعب إلى مركز جديد، عندما فكروا بأن يجلسوا في هذا الركن بتذاكر مخفوضة، ويقيموا استعراضهم الذي سيجعل الجاذبية لهم وحدهم. من هنا، فإنّ «الألتراس» هو الجنون الكامل بالفكرة، وقد تتحوّل إلى عصابات فاشية كما حدث في بعض بلدان أوروبا الشرقية، وتقود حروباً أهلية، وقد تجذبها مسارات ثورات التحرر من الديكتاتور كما حدث في مصر. «الألتراس» في مصر أحدث تحولاً كبيراً في هذه المجموعات التي أصبحت نجمة ملاعب الكرة، وصانعة دهشتها.
«الألتراس» كانوا في طليعة الثوار يوم ٢٨ كانون الثاني، في انطلاق الثورة المصرية، بجسارتهم وقدرتهم على تحدّي ماكينات الأمن الجبّارة. الأمن لم يرحم يومها العُزَّل والمتظاهرين السلميين، وانكسرت هيبته عندما كسر «الألتراس» حاجز الخوف. ما زلتُ أقف طويلاً عند النزعة الفاشية في «الألتراس»، لكنها لم تعد كل شيء، فهم التعبير الايجابي عما يُسمّى في الادبيات السياسية «الأنارشية»، ويترجم خطأً على أنه الفوضوية، لكنه الاتجاه ضد كل سلطة تقهر الجموع من أجل أن تُسعد مجموعات أو نخباً مختارة. وإذا كان جهاز أمن الدولة قد شعر في الأيام الأخيرة لوزير الداخلية حبيب العادلي بخطورة «الألتراس»، وخصّص لهم فرقة مطاردة كاملة، فإنّ هناك في جهاز الأمن من يتعامل معهم بنفس العقلية القديمة، معتبراً أنهم جموع من رعاع الملاعب. لكن الحقيقة أنهم يضمّون مزيجاً مدهشاً من الموظفين المهمّين وحَمَلة الشهادات العليا وطلاب المدارس الحكومية والخاصة وجامعيين وعمالاً مهرة وضباط شرطة وجيش وأصحاب شركات. إنهم، بالنسبة لمن ورثناهم من عصر الانحطاط (حكم مبارك) من مذيعين وصحافيين وإدرايين في كرة القدم، مجرّد مجموعات منفلتة.
مَن أصدر الأوامر بضرب «الألتراس» عندما بدأ الهتاف ضد العادلي ومبارك؟ الغريب أنه بالتزامن مع الهجوم الأمني عليهم، كان هناك جناح اعلامي غاضب بقيادة مذيع يصبغ شعره، لا أذكر سوى مدى الابتذال الذي يملأ الشاشة عندما يظهر عليها. هل غضب المذيع والضابط الذي أعطى أوامر الضرب من أغنية «الألتراس»؟ سأكررها ربما نفهم لماذا غضبوا: «‎يا غراب ومعشّش جوّا بيتنا... بتدمِّر ليه متعه حياتنا. مش حنمشي على مزاجك ارحمنا من طلة جنابك. لفّق لفّق في القضية. هيّ دي عادة الداخلية». والأغنية ليست ضد الشرطة بحدّ ذاتها ولا ضد الأمن، بل ضد كل من يتصور أن العقلية البوليسية أو التسلطية ستحكم من جديد. الردّ القوي عليه: كلنا «ألتراس».