تونس | في تونس، لا تزال مراحل تشكيل الخريطة السياسية الجديدة لمرحلة ما بعد انتخابات المجلس التأسيسي، تبدو في خطواتها الأولى، حيث الأحزاب والفاعليات السياسية المؤثرة بحالة «جس النبض»، قبل بلوغ مرحلة «شق الصدر» وتغيير «قلب النظام». العملية السياسية في البلاد اليوم بما يشبه العملية الجراحية القاسية بعض الشيء، لأن هذه المرحلة الانتقالية ستحدد الخطوط العريضة لمرحلة يأمل المجتمع التونسي أن تكون ديموقراطية فعلاً.
وتأخذ تلك العملية الجراحية المنحى الجدّي حالياً مع المشاورات التي تجريها الأحزاب لتشكيل المرحلة المقبلة على صعيد كل من تكتلات السلطة والمعارضة، وخاصة أنّه بات من المعلوم أنّ هناك بعض الأحزاب التي كشفت عن نيّتها بأنّ المرحلة المقبلة بالنسبة إليها ستكون مرحلة ممارسة المعارضة والمناكفة للسلطة الجديدة التي بدأت تتشكل في الأفق البعيد. هي سلطة يُنتظر على كل حال أن تكون بطابع إسلامي، وبوجه علماني. ورغم أنّ معظم المراقبين يتوقّعون أن تنتقل هذه المشاورات الأسبوع المقبل إلى المرحلة الجدية، إلا أنّ كثيرين يجدون أن هناك بعض الانزعاج من بعض قادة الأحزاب من الاتجاه للارتماء في أحضان حركة «النهضة» الإسلامية. ويبدو من هذا الكلام أن «السوق السياسية» ناشطة اليوم، إذ إن عمليات العرض والطلب أخذت تتشكل في نطاق «سوق السياسة»، وتحديداً بين أصحاب المراتب الأولى في انتخابات المجلس التأسيسي، أي «النهضة» و«المؤتمر» و«التكتل». والحسابات السياسة تأتي من شعور بإمكان فشل المرحلة الجديدة، وخاصة أن طابع المرحلة يبدو صعباً على الصعيد الاجتماعي، بدليل حركات الإضراب بالجملة التي تشهدها قطاعات اقتصادية كثيرة في تونس الثورة. التحدي الاقتصادي يبدو إذاً كـ«حصان طروادة» بالنسبة إلى المعارضة الجديدة التي بدأت تنظم نفسها، وتدرس إخفاقها الانتخابي للوقوف على أسبابه وإعادة بناء نفسها وفق مقتضيات المرحلة الحالية، وبناء خطاب جديد مبني على معطيات واقعية بعيدة عن الأيديولوجيا. وبالفعل، بدأت ملامح المعارضة تتجلى، مع إعلان الحزب «التقدمي الديموقراطي» و«القطب الديموقراطي الحداثي» اختيارهما للمعارضة كمربض جديد لإعادة بناء الذات. أما «العريضة الشعبية»، فقد اختارت من جهتها، بحسب تصريحات زعيمها المتموِّل الهاشمي الحامدي، صفوف المعارضة أيضاً، وذلك إثر رفض المرشح «النهضوي» لرئاسة الحكومة، حامدي الجبالي أي تحالف مع الهاشمي الذي «تحالف مع الشيطان» لإنجاح عريضته في المجلس التأسيسي. لكن في المنحى الثاني من الخريطة السياسية الجديدة، فإنّ الحوار و«جسّ النبض» دائران على قدم وساق، وتحديداً بين حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» وحركة «النهضة». ولعلّ آخر تصريحات «الفائزين» بنصيب الأسد من المقاعد تعبّر عن ذلك، حيث قال زعيم «المؤتمر من أجل الجمهورية» المنصف المرزوقي إنّ الحوار الدائر مع حزب النهضة وحزب التكتل الديموقراطي، بهدف «الاتفاق بشأن خريطة الطريق الخاصة بالمرحلة المقبلة، أي تنظيم السلطات العمومية وتحديد صلاحيات رئيس الدولة ورئيس الحكومة ومدة عمل المجلس» التأسيسي. وأعرب عن اعتقاده بأنّ «من الطبيعي أن تنال حركة النهضة منصب رئاسة الحكومة باعتبارها الفائز الاول في الانتخابات»، في إشارة إلى ترشيح الأمين العام للحركة الإسلامية حمادي الجبالي للمنصب. هذه التصريحات تعبّر عما يدور في المطبخ السياسي التونسي من مزايدات حول المناصب السياسية، ومدى صلاحيتها في المرحلة التأسيسية الانتقالية المقبلة، إذ إنّ الأنباء تؤكد أن رمي أسماء المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر وآخرين لتولي منصبي رئيس المجلس التأسيسي ورئيس الجمهورية المؤقت، هو ما جعل المرزوقي يحاول ذر الرماد في العيون، قائلاً إن حزبه «غير مهتم بأي منصب شكلي، وسيرى كيف يكون التوافق على الصلاحيات»، على أن يحسم قراره عندها، في إشارة فسّرها البعض بأن الرجل يشترط تعزيز الصلاحيات الدستورية للرئيس كي يقبل تولّي المنصب، فما بين نظام برلماني تسيطر عليه الحكومة المتمثلة بـ«النهضة»، وبين نظام رئاسي ـــــ برلماني حيث تتوزع الصلاحيات، فرق شاسع. ولعلّ ما يبدو أنه اختلاف بين الأطراف «السلطوية» الجديدة، اتفاق في المقلب الآخر، ظهرت ملامحه حيث أصرّ المرزوقي على أن يترك رئيس الوزراء المؤقت الباجي قائد السبسي و«الوجوه القديمة في الحكومة» المجال لغيرهم في المرحلة الانتقالية، في إنهاء للكلام الذي تحدث عن احتمال ترشيح قائد السبسي (84 عاماً) لرئاسة الدولة في المرحلة الثانية. موقف يمثّل ثاني «فيتو» ضد السبسي في مسعاه للوصول إلى رئاسة الجمهورية في المرحلة التأسيسية، بعد الرفض الذي رفعته حركة «النهضة» في وجهه منذ اليوم الأول من صدور نتائج الانتخابات.