كاذب من قال إن زمن المعجزات انتهى
لقد أصبحت شخصاً آخر، قال لي والدمعة ترسم بين كلماته طريقاً وعراً، تصعد هضاباً تهبط ودياناً وأحياناً قليلة تسير طريقاً سهلاً على تفاصيل وجهه. منذ أن غاب الأحبّاء وأنا أعاني من نفسي التي ما باتت لي. تارة تصبح أسيرة أفراد او أفكار وتارة أخرى تصبح طريدة أحلام وكوابيس.
لم يقرأ صديقنا اي كتاب منذ زمن بعيد. لم يخطَّ اي آية او يسقط إلها منذ زمن بعيد. لم تلتحف نفسه بدفء لعنة المخيم ولم يتأمّل سماء المخيم التي تغيب خلف حائط آخر قد ارتفع في ليلة وضحاها. والأكثر من هذا، أن صديقنا لم ير الشمس منذ رسمها الأطفال دائرة الحيرة الصفراء محاطة بهالة من الأسلاك الشائكة.
وصديقنا أيضاً بات وحيداً، وحيداً كموت طفل في السابعة من عمره يحمل حجراً في يده ويعرف ماذا يريد. كل اصدقائه استبدلهم بذلك الدولاب الآلي السخيف والأصم الذي كان يدحرجه، بأصدقاء ليسوا كالأصدقاء. كل أصدقائه رحلوا. منهم من رحل لحيرة الحرية الصفراء بعدما سخرت من هالة الأسلاك الشائكة تلك. منهم من سقطوا لنبل التجربة وخاضوا المعارك في الغابات والجبال، ولم يعرفهم إلّا هو. ومنهم من أصبح شخصاً آخر. ومنهم من ذهب بعييييدا.
صديقنا يرى الدنيا أصغر من ثقب الإبرة. رغم انّ الكثير من الناس حوله ما زالوا يلهثون وراء حبل التواصل، الذي سريعاً ما يتحول حبل مشنقة بيد ساحر لا نعرف الأعيبه. من هم هؤلاء الحشود المنتظرون سواء عشوائياً أو في صفوف منتظمة شربة من إكسير الخلود؟! ومن قال لكم إن صديقنا يقرع باب الخلود؟ أو يعرف معنى الكلمة؟ صديقنا لا يسعى إلى الخلود ولا إلى البقاء، رغم ان الكثيرين يحسدونه لأن الخلود يرافقه ظلاً أينما ذهب.
حدّثني عن طفولته ومراهقته التي تدفقت نبعاً متناغم الألحان. وحدّثني عن أحبته الراحلين حتى جفّ الدمع بين جبال كلامه ووديانه. عاتبهم كيف يرحلون بدون وداعه. لماذا ستطاعوا الرحيل بينما بقي هو ليرى تلك الحشود تتدافع من أجل ما يدعوه حقاً مدنياً في الخارج أو لإعلاء صوت استنكار لبناء مستوطنة هناك! و«مش صوت الرصاصة اللي بيقتل» قال لي مستحضراً بركاناً آخر من الدموع المكتومة. وبينما كنت أشاطره أطراف الحديث،كان يتحوّل لشخص آخر. شعره الأشيب يتساقط وجلده يتجعّد أكثر فأكثر. وكنت أكاد اشعر بعظامه تصغر وتتقلّص حتى ذهلت وكان قد لاحظ علامات ذهولي فوضع يده على كتفي وقال باسماً «هادا الخلود ملصّق فيّ وين ما أروح». لقد كان صديقنا يولد من جديد!
شاهد عيان ـــــ مخيم برج البراجنة

الكابتن أبو حرب... معجزة لم تكتمل

يستيقظ كل يوم باكراً ويبدأ جولته في شوارع المخيم كما لو كان الخليفة يتفقد أحوال الرعية. يشتري الجريدة والحليب ونوعاً من المكسرات، فهو لم يأكل أو يشرب غير الحليب والمكسرات منذ عشرين سنة. يعود للمكتب - البيت ويبدأ البحث عن فلسطين في صفحات الجريدة ولا يتركها حتى ينال من كلماتها المتقاطعة، ليبدأ مشاهدة الأخبار. «أبو حرب» أو «الكابتن» كما يناديه الجميع هناك في مكتب الجبهة الشعبية، تعلّم الطيران في دولة اشتراكية في نهاية الستينيات ومن وقتها وهو الكابتن، في منتصف السبعينيات بدأت قيادة الجبهة العسكرية تدريبات للكابتن لتنفيذ عملية نوعية داخل فلسطين، وعند أحد التدريبات لامست طائرة الكابتن كابلات التوتر وسقطت، أصيب الكابتن (في العين والوجه والرأس) ولم يعد متوازناً، وفي زيارة لأقاربه بعد أيام في الأردن اعتقل لتسع سنوات على خلفية انتمائه، خرج الكابتن فاقداً بصره في إحدى عينيه وبدا عدم توازنه أوضح.
لا يوجد للكابتن أية احتياجات، فقط الحليب والمكسرات والدخان والجريدة ومشاهدة الأخبار، أخبرني الشباب أنه بعد خروجه من المعتقل في أواخر الثمانينيات كان يتحدث أكثر وكان لديه مشروع عقد مؤتمر دولي للسلام، وكان يكتب الرسائل لجميع الزعماء في العالم والأمم المتحدة، وفعلاً هذا ما حدث في مدريد عام90، لكن الكابتن لم يعلق على المؤتمر وازداد صمته وازدادت وحدته، الكابتن لا يتحدث إلا إذا سئل، لكن فضولي دفعني إلى الحديث معه مراراً عن اليسار والاشتراكية والفصائل وبداية الكفاح المسلح وغيرها من المواضيع، وبعدها أقنعت الكابتن أن يحتسي معي القهوة لكنه لم يكمل الفنجان .
مرت بعض السنوات حتى رأيت الكابتن في المخيم، اقتربت لألقي التحية (كيفك كابتن) لكنه بدا دهشاً ثم رد: أهلاً (كيف حالك وكيف الأولاد؟) فعلمت أنه لم يتذكرني. حاولت إخفاء حزني، وسألت نفسي لماذا يجب عليه أن يتذكرني ربما علي فقط ألّا أنساه.
حسان حسان ــــ مخيم اليرموك
*من اعضاء فرقة كتيبة 5