عاشت تونس، أمس، أجواء متناقضة أنتجها إعلان النتائج الرسمية للانتخابات التاريخية للمجلس التأسيسي في تونس يوم الأحد الماضي؛ فعلى وقع الاشتباكات العنيفة والفوضى التي سادت مهد الثورة التونسية، سيدي بو زيد، أعلنت حركة «النهضة» الإسلامية، التي احتلت المرتبة الأولى في سلم الفائزين في الانتخابات، خريطة طريقها لحكم البلاد، محاولةً تهدئة المزيد من المخاوف التي يثيرها حكم حركة إسلامية على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ومدّ رئيس «النهضة» راشد الغنوشي، يده إلى جميع القوى السياسية التونسية «لبناء نظام ديموقراطي»، مجدِّداً التزامه «تجاه نساء تونس». وقال الغنوشي، خلال مؤتمر صحافي، إن «الديموقراطية للجميع وقلوبنا مفتوحة للجميع. ندعو إخوتنا مهما تكن توجهاتهم السياسية إلى المشاركة في بناء وإرساء نظام ديموقراطي». وتابع قائلاً إن «الثورة لم تجر لتدمير دولة، بل لتدمير نظام. نحن مصممون على حماية الدولة التونسية». وأضاف: «يجب ألّا نغفل جهاد من ناضلوا من أجل هذه الثورة وتداولوا على السجون منذ الاستقلال (1956) من قوميين واشتراكيين ونقابيين وليبراليين وشيوعيين». وعن السلوك الاجتماعي لحكومته المقبلة التي ينتظر أن يرأسها الأمين العام للحزب، حمادي الجبالي، أشار الغنوشي إلى التزامه «تجاه نساء تونس لتعزيز دورهن في اتخاذ القرار السياسي ولتفادي أي رجوع إلى الوراء في مكتسباتهن»، موضحاً أن 42 من أصل النساء الـ 49 اللواتي انتخبن في المجلس التأسيسي، ينتمين إلى حزب النهضة. وأضاف: «لن نغير من نمط الحياة. سنترك للناس حقوقهم في ما يلبسون ويأكلون ويشربون، هذا ليس من شأن الدولة». وبينما أعلن الغنوشي أن حركته لن تفرض الحجاب على المرأة التونسية؛ «لأن كل محاولات الدول العربية لفعل ذلك باءت بالفشل»، فإنه أوضح أن المرأة ستشارك في الحكومة الائتلافية «سواء أكانت محجبة أم لا». أمّا بشأن الالتزامات الدولية لتونس، فقد أجاب: «تلتزم حركتنا دعم جهود المحافظة على الأمن والسلم في العالم ومقاومة كل الآفات المهدِّدة لهما، كذلك تلتزم احترام المواثيق الدولية والمعاهدات الموقعة من الدولة التونسية». وفيما أوضح الغنوشي أنه يريد أن يكون الدينار التونسي عملة قابلة للتحويل، توقع المرشح الأوفر لترؤس الحكومة، أي الجبالي، إعلان الحكومة الجديدة في غضون فترة ما بين أسبوع و10 أيام، كاشفاً أن حركته بدأت بالفعل مشاوراتها مع الأحزاب لتأليفها، متعهداً أن تكون أولويتها في المشاورات إنعاش الاقتصاد.
وفي السياق، لفت الغنوشي، في تصريحات لوكالة «رويترز»، إلى أن حكومته ستظل ملتزمة برنامج الاقتصاد الحر الذي يشجع الاستثمار والطرح العام الأولي للأسهم، إضافة إلى التزامها توفير مناخ لا يشوبه الفساد، ويحمي مصالح المستثمرين. وكان بارزاً كشفه عن تفضيله الاحتفاظ ببعض الوزراء من الحكومة الحالية «الذين قدموا أداءً جيداً». ورداً على سؤال عن هوية الحكومة الجديدة، أجاب بأن التغيير لن يكون كاملاً، لأن الاتجاه هو «إجراء بعض التغييرات بعد التشاور مع شركاء الحركة في الحكومة الائتلافية»، معرباً عن ثقته ببعض الوزراء «الذين يتسمون بالنزاهة، والذين أدوا واجبهم جيداً في بعض القطاعات الاستراتيجية». وشأنه شأن الغنوشي، طمأن رئيس حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» في تونس، منصف المرزوقي، الذي حصل حزبه على المرتبة الثانية في انتخابات المجلس التأسيسي بـ30 مقعداً، إلى أن معركة تونس في المستقبل لن تكون عقائدية أو إيديولوجية، بقدر ما ستكون ضد الفقر والإقصاء، في إشارة إلى احتمال مشاركة الحزب المذكور بالحكومة الائتلافية.
ورأى المرزوقي، في حديث مع صحيفة «الشروق»، أن «الذين منحوا أصواتهم للنهضة أو للمؤتمر أو التكتل أو حتى العريضة، لم يفعلوا ذلك بوازع ديني أو إيديولوجي بقدر ما هم في أشد الحاجة إلى تلبية حاجاتهم اليومية في ظل العزة والكرامة». ورداً على سؤال عن احتمال ترشيحه لرئاسة تونس، رأى أن هذا الكلام «سابق لأوانه ويحتاج إلى مزيد من المشاورات الواسعة مع كل أطياف المشهد السياسي».
في غضون ذلك، كانت تونس، وتحديداً المدينة التي انطلقت منها ثورة 24 كانون الثاني، أي سيدي بوزيد، تشهد أعنف المواجهات وأعمال الفوضى منذ انتخابات الأحد الماضي، وذلك على خلفية نيل «النهضة» نحو 41.5 في المئة من أصوات الناخبين، موصلةً بذلك 90 نائباً يُرجَّح أن يرتفع عددهم بعد انسحاب حزب «العريضة الشعبية» بزعامة المتمول الهاشمي الحامدي إثر إلغاء فوز القائمة في 6 دوائر. وثار غضب سكان المدينة منذ مساء أول من أمس، فور إعلان النتائج الرسمية، بسبب الفوز الكبير لـ«النهضة»، ما أدى إلى حصول اشتباكات مع قوى الأمن وإحراق مركز «النهضة» ونهبه في سيدي بوزيد. حادثة دفعت بالغنوشي إلى توجيه نداء إلى أهل المنطقة بالتزام الهدوء والحفاظ على الأملاك العامة، حتى إنه اتهم حزب «التجمع الدستوري الديموقراطي» المنحل (الحاكم إبان الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي) بالوقوف خلف هذه الاضطرابات. وتظاهر المحتجون اعتراضاً على إبطال اللجنة الانتخابية لنتائج «العريضة الشعبية» في 6 دوائر، منها دائرة سيدي بو زيد، مسقط رأس رئيس القائمة الهاشمي الحامدي، ورفع المشاركون في هذه التحركات شعارات منددة بحركة النهضة وبأمينها العام حمادي الجبالي، منها «يا جبالي يا جبان البوزيدي لا يهان»، و«النهضة والإخوان عملاء الأميركان». وبعد هدوء نسبي ساد المنطقة صباح أمس، عادت قوات الأمن لتطلق النار لتفريق حشد من المحتجين كان يحاول مهاجمة مكاتب حكومية في البلدة، وأحرقوا مؤسسات أمنية وحكومية منها بلدية المدينة، ومقارّ للحرس الوطني (الدرك)، ومحكمة المدينة ومحطة أرتال وعربات قطار. ونتيجةً لهذه الأحداث، فرضت وزارة الداخلية حظراً للتجوال في كامل أنحاء محافظة سيدي بوزيد.
(أ ف ب، رويترز، يو بي آي)