حيّدت روسيا نفسها عن بقية الدول الكبرى منذ بدء الثورات العربية. تساءل البعض: ما هي سياسة روسيا حيال منطقة الشرق الأوسط؟ ظل الجواب مبهماً إلى أن وضعت نفسها في موقف أكثر وسطية من قبل بين جميع الأطراف، استعداداً للنتائج غير المضمونة. ومع إعلان مقتل العقيد الليبي معمر القذافي، تفردت روسيا في موقفها، وخرج رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين، أول من أمس، ليدين نشر لقطات مقتل القذافي. وأشار إلى «عدم وجود أي شيء من هذا في أخلاقيات أيّ من الأديان العالمية، لا في المسيحية ولا في اليهودية ولا في الإسلام». وكان وزير الخارجية سيرغي لافروف قد أبدى حزماًً، حين قال إن «القافلة التي كانت تقل القذافي لم تكن تمثل خطراً حينما تعرضت لهجوم من طائرات الحلف الأطلسي».
لم يتولّ لافروف وحده الدور الإنساني في روسيا. فقد استنكر مفوض حقوق الإنسان، فلاديمير لوكين، «أيّ جريمة قتل»، مضيفاً إنه «وجد المشهد الذي رآه على شاشة التلفزيون فظيعاً». وقال إنه «كان يحبذ محاكمة القذافي أمام المحكمة الدولية. أما الآن، وبعدما لقي مصرعه في ظروف قاسية، فقد يتحول في نظر بعض الناس من دكتاتور متهور إلى شهيد».
هلّل العالم لخبر مقتل القذافي وتوالت الروايات. صرخت وزير الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، «واو»، لدى سماعها الخبر. إلا أنه حدث أمر ما جعلها تدعم قرار الحكومة الليبية الجديدة فتح تحقيق في مقتل القذافي، خشية أن يتحول المجتمع الدولي إلى قاتل، وخصوصاً بعدما دعا مكتب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إلى «فتح تحقيق كامل في موت القذافي».
الصحف العالمية بدورها بدأت تناقش مدى قانونية قتل القذافي، لكن من هو المسؤول؟ وضعت صحيفة «برافدا» الروسية خمس جهات في خانة المسؤولية: «الأفراد الذين أساؤوا إليه جسدياً أو ضغطوا على الزناد، مثل سند الصادق العريبي، أو وحدة خاصة من مقاتلي المجلس الوطني، أو قادة المجلس، أو قوات حلف شمال الأطلسي لمشاركتهم أو تواطؤهم في الهجوم، الذي أدى إلى القبض على القذافي وقتله لاحقاً، أو بعض قادة الدول الغربية، الذين قدموا الدعم المخلص للمجلس».
خرق القانون الدولي بالقتل ما هو إلا نتيجة لخروق سابقة، بحسب «برافدا»، التي أشارت إلى «نوعين من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي: يتعلق الأول باتفاقية جنيف الثالثة عام 1929 (التي تمنح بعض الحقوق لأسرى الحرب)، والثاني بقرار مجلس الأمن رقم 1973 (إقامة منطقة حظر الطيران فوق ليبيا من دون أن تأذن لقوات شمال الأطلسي بشن هجوم على أي مجموعة لم تكن تؤذي أحداً، بل كانت تفر خشية التعرض لهجوم».
عمدت روسيا إلى الاستفادة من الثغرة الإنسانية هذه التي وقع فيها المجتمع الدولي، عراب حقوق الإنسان، لإحراجه. كأن تقول له: «أطحت دكتاتور ممارساً الدكتاتورية عينها». وقد تكون التصريحات الروسية هذه نوعاً من الضغط على بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وايطاليا وقطر، التي قادت التدخل الخارجي في ليبيا لإطاحة القذافي، حتى لا تخرج من هذا البلد الأفريقي من دون بعض الامتيازات. وأكدت صحيفة الأعمال الروسية «كومرسنت» أن «مصير العقود الاقتصادية المبرمة بين روسيا والقذافي في ليبيا، ومشاركة موسكو في مشاريع جديدة، باتت رهن إرادة الغربيين، الذين أسهموا في إطاحة النظام الليبي». ولفتت إلى أنه «على روسيا الاتفاق مع الدول التي أدت دوراً أساسياً في سقوط نظام القذافي على تقاسم الثروات الليبية». ونقلت «كومرسنت» عن الخبير فيدور ليوكانيوف، قوله إنه «في أحسن الأحوال، ستدعو الشركات الغربية روسيا كشريك. لم يجازف البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون بتلك المخاطر ليتقاسموا في النهاية السوق الليبية مع الدول التي لم تشارك في العملية».
ورغم اطمئنان موفد الكرملين للنزاعات في العالم العربي، ميخائيل مرغيلوف، لجهة اعتراف روسيا بالمجلس الوطني الانتقالي، واجراء مفاوضات حول استمرار فعالية العقود الروسية، دعت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا شركة «غازبروم» الروسية إلى اجتماع في طرابلس لبحث مخالفة الالتزامات الاستثمارية.
عرفت روسيا استغلال «خرق الغرب للقانون الدولي» من دون اللجوء إلى خطاب استفزازي. أُحرج الغرب، لكن لا شك أن روسيا لا تؤرقها اللإنسانية وشرعة حقوق الإنسان، بقدر ما يهمها الحفاظ على موطئ قدم لها في ليبيا، بعدما كانت قد أبرمت عقوداً عملاقة مع النظام السابق. بدأ صراع الجبابرة (الذي لم يتوقف يوماً)، وبدأت عملية مقايضة الأوراق.