يوماً بعد يوم، تتضح الصورة: عقلية السلطة والحكم تحكم جيش مصر الذي يفصّل معايير الوطنية والاستقرار والفوضى بحسب شيفرة لا يعرفها سواه. النبأ السارّ أنّ الثوار يعون ذلك. النبأ السيئ أنّ الجنرالات الطيبون لا يتعبون

شعب الجيش في مواجهة شعب الثورة



«مصر فوق الجميع». شعار الحملة التي وُزعت ملصقاتها في قلب القاهرة والاسكندرية في الأيام الماضية للمطالبة بأن يكون المشير حسين طنطاوي رئيساً للجمهورية، «لأن هذا هو المطلب الشعبي للاستقرار». إنها غواية الحكم العسكري، والتلذُّذ باللجوء إلى حماية الجيش من فتنة الثورة. ليست عسكرة بل استقرار. جميعها تسميات متباينة لشيء واحد؛ لماذا الجيش هو الاستقرار؟ وماذا يعني الاستقرار؟ ولماذا المشير لا أحد غيره من المؤسسة العسكرية؟ إنها الغواية نفسها التي أوقعت الشعب في محبة العسكر، وأوقعت العسكر في غرام السلطة، وانتهت الغواية إلى مازوشيّة معلنة تجاه عسكرة الجمهورية. وفي جمهورية الكاكي، لا يجتهد الديكتاتور كثيراً في العثور على شعبه. إنه الشعب الطيب أو «المواطنون الشرفاء» كما يسميهم مجلس الجنرالات في مصر. من هم هؤلاء؟ ما هي معايير منحهم هذه الصفات ومَن يحرم الباقين منها؟
عقلية الاستبداد تقسّم المواطن إلى شريف وغير شريف، وطني وغير وطني، وفق معايير غامضة تدور فقط في رأس صاحب السلطة، وإذا ضغطت على صاحب هذه السلطة ليكشف عن معايير تصنيفه، فسينطق بتهويمات تنطبق على الجميع، لأنها تقوم على شيء صلب واحد: المواطن الشريف هو ما تراه السلطة شريفاً، وتربّيه على مزاجها، وتضعه على «كنبة» ينتظرها مساءً لتقول تعليماتها، وتسمح له بغضب قبل العشاء وتوترات بعد الظهر، لكنه في النهاية ينام ويحمد ربه لأن هذه السلطة توفر له بلداً يستحق شرفه. المواطنون الشرفاء هم «شعب» المجلس العسكري الحاكم، مثلما كانوا شعب حسني مبارك الذين صدّقوه عندما قال لهم جهاز اعلامه إن «إسرائيل تقود الثورة ضده في ميدان التحرير»، وصفّقوا له عندما قال إنه بالاستبداد حمى مصر من الهول، وهو نفس منطق صدام حسين الذي قتل ملايين من العراقيين ليحمي «المواطنين الشرفاء». من هو المواطن الشريف الذي لا يتظاهر من أجل حقه، ومن أجل الحصول على راتب يكفل له حياة كريمة، بينما كل من يجلس في كرسي السلطة بلا كفاءة ولا موهبة يحصل على رواتب خرافية؟ هل المواطن الشريف هو الذي يسكت على عدم المساواة مع ابن بلده في الحصول على تصاريح بفتح دور عبادة، وعندما يطالب بالمساواة يصبح متطرفاً ويستقوي بالخارج ويُدهس تحت دبابة؟ لم يقل المجلس من هم المواطنون الشرفاء الذين يقصدهم في بياناته. هل هذه هي شيفرة سرية ينادي بها على تنظيم شعبي سري سيحميه من الثوار؟ هذا ما حدث عدة مرات بدا فيها المجلس العسكري بتصرفاته الاخيرة منذ «موقعة العباسية»، صانعاً للفوضى، عبر تشغيل سلاح البلطجية وتحفيز جمهوره من «المواطنين الشرفاء». هؤلاء مع الثورة وضد الثوار، مع التخلص من مبارك ويفتقدونه في آن. إنهم مع تحقيق العدالة لكن من دون تظاهرات. مع الاستقرار لكنهم جميعاً لهم ذكريات في «ميدان التحرير». صانع الفوضى يريد الجميع اللهاث إليه وطلب حمايتهم من صناعته. هذه هي المحاولة التي أفلتت منه في «ماسبيرو» بسبب تضخم حجم التظاهرة، وجغرافية المكان المركبة، والأهم بسبب غياب كفاءة القوات غير المدرَّبة على فض الجموع الكبيرة، والمفتقِرة إلى الجهاز السياسي القادر على إعادة شحن شعب «المواطنين الشرفاء» ليستمر في حرب الدفاع عن المجلس. ماسبيرو كانت موقعة مناسبة للحصول على شعبية، فالطرف الآخر واضح والتجييش ضده سهل: أقباط ضد الجيش، يفترون على جنوده، يطلقون النار عليه ويحرقون مركباته، والجيش عاقل وطيب ومظل... باختصار، الشعب حوّل الجيش إلى ضحية. الفشل في موقعة ماسبيرو حدث بسبب انفلات الوضع بنحو تصعب السيطرة عليه، خاصة بعدما سقط قتلى. لكن هناك جزءاً من الخطة نجحت بعزل الثوار، وكل من يطالب بالحقوق أو يقف في مواجهة ادارة المجلس العسكري. ففي يوم المذبحة، اقتحمت الشرطة العسكرية مصنع نسيج في محافظة المنوفية لتفض اعتصام عمّاله بالقوة، وبعدها بثلاثة أيام فضّت اعتصام «المصرية للاتصالات» بالقوة. إنها تشير إلى أن «التظاهر» أو الثورة «فوضى»، بينما لدى المجلس «ثورة متحضرة» يرعاها ويدعمها ويحميها ويعد الشعب بأنه سيقودها إلى مستقبل يشهد له العالم كله.
لكن الجنرالات هم أيضاً طيبون، كما يبدون في حواراتهم التلفزيونية. طيبون ويعرفون مصلحة البلد ويحلمون بانتقال مصر إلى بناء دولة حديثة لا فرق فيها بين مسلم ومسيحي ومَن لا دين له. يتكلمون أيضاً عن 30 سنة من الفساد والضحك على الشعب، وتزوير ارادته. إنهم طيبون وصادقون، لكن النوايا الطيبة لا تصنع دولة، والعدو الذي يبحث عنه المجلس داخلي، يجلس بينهم، إنه العقل السلطوي الذي يصوّر لهم بأنهم يعرفون كل شيء وأنهم رسل العناية الإلهية. الدولة الحديثة أيها الجنرالات الطيبون تقوم على المحاسبة وتحديد المسؤوليات لكي لا يتكرر ما حصل. وذلك لن يتحقق إلا بتغيير الأسلوب والطريقة الدفاعية التبريرية لكل ما تفعله السلطة. نصدق ايضاً أنهم لا يريدون الحكم، لأنه لا يمكنهم ذلك ببساطة إلا بفاتورة باهظة ليسوا قادرين على دفعها، وأدوات لا يملكونها.
لم يقل أحد إن الجيش لا يحب الشعب، أو إن الجيش ضد الشعب، لكن السؤال كان: لماذا تحمون المسؤول عن خطيئة ماسبيرو؟ لم يقل أحد إننا لا نريد سيادة القانون، لكن قانون مبارك لم يكن سيداً، ومع ذلك خدم استمراره في الحكم، والسير على ايقاعه الآن يجعل الثورة محشورة في صناديق زجاج تكاد تنفجر، وحولها مشعوذون يريدون الفتك بها. من هنا، ماذا يعني تأجيل قانون افساد الحياة السياسية إلا حماية المفسدين أو تعطيل الحياة السياسية؟ الثورة تعني قطيعة لا استمراراً يا جنرالات يا طيّبين. فهل دولة مبارك كانت دولة؟ إن الحفاظ على دولة مبارك تدمير لا بناء، والحفاظ على شركاء الجريمة شيء يقترب من الجريمة. أخيراً، رغم كل شيء، لا يمكن مقارنة ما يحدث الآن بما كان يحدث أيام مبارك، ذلك لأنّ هناك اختلافاً نوعياً جداً. كنا أيام مبارك في صحراء كبيرة، لكننا الآن على أعتاب بناء دولة يتصارع المجتمع عليها ويحارب من أجل ديموقراطيتها.

سكّان المزرعة بين الشماتة والرعب



الجيش يحاول تصوير الثورة وكأنها كانت انقلاباً ليبقي قواعد النظام السابق بعيدة عن أيادي الثوار وعقولهم. والثوار لا يزالون يبحثون عن عقل سياسي كامل. أما سكان مزرعة مبارك، فهم يتوهمون مرعوبين بعودة مجدهم
الروايات المهرَّبة من مزرعة طرة تحكي عن شعور كبير بالشماتة بعد مذبحة ماسبيرو. ابتسامات وضحكات وكلمة واحدة تتردد: «خليهم يشوفوا». الشامتون طبعاً هم سكان المزرعة من نجوم نظام حسني مبارك ومفاتيحه وعائلته. يجمعهم شيء واحد: إنهم واقفون على الحافة بين الانقاذ والنهاية. ينتظرون مصيرهم مما يمكن أن نسميه «الجو العام» أو «المزاج الاجتماعي». هم في برزخ سياسي ينتظرون العفو أو الانتقام، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالقلق الكبير بعد كل حكم قضائي ضد أحدهم. هم شخصيات درامية، طُهاة ورماة وأبناء في عائلة راحت ضحية وعيها المزيف بامتلاك البلد، وبأن ما يفعلونه هو القانون ولا قانون فوقهم، وهذا ما جعلهم يمارسون كل الجرائم بإحساس الأولاد الطيبين والمؤدبين الذين يساعدون الأب، مندوب العناية الإلهية لإنقاذ البلد.
سوزان مبارك قالت لجيهان السادات بعد الثورة: هي دي مكافأة خدمة الشعب. سكان المزرعة يعيشون أيامهم بين الشماتة والرعب، هل لديهم أمل؟ سكان المزرعة أصبحوا تقريباً بلا فاعلية، وأُزيحوا تماماً من معادلة الحكم. لكن هل لا يزال لديهم أمل؟ لماذا؟ لأن غريزتهم تكتشف أن قلب النظام لم يتغير، وأن ماكينته لا تزال تتحرك بنفس السلطوية. الماكينة كما هي ولم يسمح لأحد بالوصول إلى قرصها الفعال، وهذا ما يمنح الأمل الكاذب لسكان المزرعة الذين لم يدركوا بعد أن ما يحدث في مصر هو حصاد أيامهم المريرة، بداية من البلطجة وصولاً إلى انفجار التطرف السلفي والطائفي، مروراً طبعاً بتوقف مسارات الاقتصاد بعد توقف رأسمالية الحبايب والمحاسيب كما يسميها الدكتور محمود عبد الفضيل. الحصاد المر لم تنتبه إليه ادارة المرحلة الانتقالية لأن ما يهمها هو القلب السلطوي والحفاظ على مشاعر الشعب بالولاء لها، وعزل الثورة عن التأثير. لم تلتفت الادارة الانتقالية إلى أنها تقود مصر إلى كارثة بتركيزها على ضرب الحريات، بينما كل الامراض التي تركها مبارك تسري في الجسد. لم تحصّن ادارة المرحلة الانتقالية الدولة من بكتيريا الفساد والاستبداد، وانحصر تركيزها الكبير على تحويل ارادة الثورة إلى مطالب وحصار الحريات بحجة أننا في «ظرف استثنائي». بمعنى بسيط، أدار المجلس العسكري البلاد بروح الانقلاب العسكري رغم أنها ثورة. هكذا انتهت الحال إلى مشاعر بالفشل تلو الفشل وشماتة سكان طرة رغم كذب أملهم وشعور عمومي باقتراب الكارثة، وبأن كل خطوة تبعدنا عن الاستقرار لا تقرّبنا منه. المجلس العسكري مشغول بتوسيع شعبيته على حساب الثورة والثوار، وهي شعبية باهظة الثمن ستلزمه بتلبية مطالب لا يمكنه تلبيتها حتى لو هدأت وتيرة الاحتجاجات وعادت الثورة لتنام بجوار حزب الكنبة. الرسائل تصل إلى المجلس العسكري متأخرة، والشعب المذعور ينتظر مؤامرة من نوع أن مبارك سيعود، وسيحكمنا السلفيون، والجيش سيدفع برئيس عسكري في بزّة مدنية. الذعر هو سيد الحياة السياسية، من الفلول وأحمد شفيق والبلطجية وعمر سليمان إلى آخر هذه العفاريت التي يتصور المذعورون أنهم سيقتلون الثورة ويمشون في جنازة الثوار. الذعر يمنع التفكير. الهواجس تحل محل الافكار، فالعقل السياسي لا يزال في مرحلة طفولته، ولم تتخلص الغالبية بعد من سطوة الفكرة المستبدة: السياسة قدر.
«الشعب خلاص أسقط النظام»، لكن هناك من ينتظر أن يسقط النظام الجديد من أعلى، كما كان يحدث عندما تصنع التحولات السياسية في مكتب الرئيس ومطابخه. التحوُّلات كلها تمّت بعيداً عن ارادة الشعب. ماذا يريد الشعب ما دام الديكتاتور هو تجسيد لهذه الارادة. مبارك وقبله أنور السادات وجمال عبد الناصر كانوا بديلاً للبلد، يمنح الحاكم للبلد معناه ونظامه السياسي. كان النظام يشبه الرئيس وليس العكس. هنا السياسة تسير في اتجاه واحد: ديكتاتور في قصره يفرض كل شيء، ويحرك كل شيء بتوجيهاته، والشعب خارج الشرفة يطلب بأدب، وتسمعه فقط أجهزة التنصت والاستخبارات. ولم يكن غريباً أن ينتظر الشعب من المجلس العسكري تحقيق مطالب الثورة. الجيش لم يغادر عقل النظام القديم، وتصوّر أنه انفرد بغرفة الأقدار وحده بدون الرئيس، وتعامل مع ارادة الثورة على أنها مجرد مطالب سينفذها بحسب ايقاع يضمن له السيطرة على ادارة البلاد، والعمل بهدوء للإعداد لمرحلة انتقال للسلطة تحافظ على موقع للمؤسسة العسكرية في صلب الدولة، وتحجز الثورة عند حدود بعيدة عن المساس بالمصالح الكبرى للمؤسسة. في الفكرة بُعد أخلاقي: الجيش يريد أن يدخل التاريخ وينقل مصر إلى العصر الديموقراطي، أو بحسب خيالات بعض الأصدقاء، يحلم أعضاء المجلس العسكري بسيارة مكشوفة يمرون بها في ميدان التحرير، بينما يصطف الشعب على الجانبين لتحية مَن حقّقوا الانتقال إلى نظام الدولة الحديثة.
إرادة من أعلى واستمرار للعقلية القديمة بأن الدولة تسقط من أعلى ولا تُبنى من أسفل؛ الجمهورية الجديدة، ورغم ديموقراطيتها، مثيرة للقلق والهواجس، ولكل أمراض الانهزام والعجز وانعدام الثقة. معارضة أيتام مبارك تدرّبت على اللعب في الحديقة الخلفية. أقصى طموحها الهتاف بسقوط الرئيس، ولم يكن هتاف السقوط متاحاً إلا بعد موجات الجسارة التي بدأتها حركة «كفاية» وطوّرتها «6 أبريل»، ووصلت عبر الخيال الحر إلى إسقاط النظام عبر تنظيم غير مرئي، كسر الطوق الأمني وشكل وحدته عبر فضاء الانترنت.
خيال دفع الأجسام للنزول إلى الشارع، ومواجهة آلة حماية الرئيس مباشرة، في معادلة حياة أو موت تحوّلت معها فكرة التغيير إلى قوة مادية كسرت رقبة النظام وفتحت مسرح السياسة أمام الملايين، لكنها لم تصنع ذراعها وأقدامها، ولا عقلها السياسي بعد. لهذا تسود في الثورة مشاعر الانتقام وحالة الهياج على اصطياد رموز النظام المخلوع. الانتقام يقابله تدليل من المجلس العسكري لهذه الرموز، وبحث عن أشكال قانونية ورغبة في احترام رئيس يصفونه بالسابق كأنه غادر موقعه بمزاجه وليس بعد ثورة أوقفت ماكينات حمايته ببسالة مدهشة. الجيش يدير بمنطق السيطرة، والثورة تريد الخروج عن سيطرة النظام القديم، وهنا تتقاطع الرغبات. الجيش بخبرات الجمهورية الأبوية، والثورة لم تكوِّن خبراتها بعد. المؤلِم هو العودة إلى حالة انتظار الأقدار، وكأن الثورة لم تحدث أو كأنها عادت إلى النوم بانتظار حكمة المجلس.