قبل أكثر من ثمانين عاماً، كتب أبو اليمين الصهيوني، زئيف جابوتنسكي، مقالته الشهيرة «على الجدار الحديدي». في المقالة، التي تحوّلت في وقت لاحق إلى أساسٍ نظري بُنيَت عليه العقيدة الأمنية للدولة اليهودية الوليدة، شرح جابوتنسكي تصوّره لكيفية دفع العرب إلى الاعتراف بإسرائيل والتسليم بوجودها. فقد رأى الرجل أن معارضة العرب للمشروع الاستيطاني الصهيوني طبيعية جداً، مشيراً إلى أن تعاملهم معه بطريقة غير عنيفة سيكون مخالفاً لأي سوابق تاريخية، ذلك أنه «ينبغي ألا نتعاطى معهم كغوغاء بل كشعب حي». ولأنهم كذلك، بحسب الزعيم الصهيوني، فإن انتزاع موافقتهم على تقديم تنازلات في قضايا مصيرية وكبرى منوطة بإفقداهم الأمل من إمكان تحقيق هدفهم في طرد اليهود والتخلص منهم، يتأتّى من خلال بناء «جدار حديدي» صلبٍ وخالٍ من أي صدع يُفترض بالعرب أن يداوموا على الارتطام به لدى محاولتهم القضاء على المشروع الاستيطاني اليهودي، حتى يقتنعوا مع مرور الوقت بأنهم لن يتمكنوا من اختراقه ويفقدوا الأمل بإمكان حصول ذلك. وبحسب جابوتنسكي، «آنذاك فقط سيأتينا المعتدلون (من العرب) وفي أيديهم اقتراح تنازلات». مناسبة التذكير بأطروحة جابوتنسكي بشأن تطويع العرب، هي عملية تبادل الأسرى التي شهدتها ساحة الصراع الفلسطينية ــــ الإسرائيلية الأسبوع الماضي. انسكب الكثير من الحبر في دولة الاحتلال خلال الأيام التي سبقت وتَلَت الحدث، في محاولةٍ للإضاءة على ما ينطوي عليه من معانٍ، وما قد يفضي إليه من تداعيات. جرى الحديث عن مزايا صفقة التبادل بالنسبة إلى إسرائيل كما عن سلبياتها. في سلة المزايا، تركّز الحديث على البعد القيمي المتصل بما عدّه معلقون وسياسيون إسرائيليون «انتصاراً أخلاقياً» لتل أبيب في علاقتها مع عقد التكافل الضمني القائم بين المجتمع والدولة من جهة، والجيش وأفراده من جهة أخرى. أما في سلة السلبيات، فقد انسحب النقاش ليشمل مروحة كبيرة من النقاط، تبدأ بالأضرار الاستراتيجية التي خلّفتها عملية التبادل، ولا تنتهي بانعكاساتها المباشرة على الأمن والعملية السياسية.
أما في ما يتعلق بالمستوى الاستراتيجي، فجرى التصريح بأن اتفاق التبادل يقوّض قدرة الردع الإسرائيلية في مواجهة أعدائها لجهة تقديمها كدولة قابلة للابتزاز والإخضاع في نهاية المطاف. ويعيدنا هذا الاستنتاج إلى نظرية الجدار الحديدي لجابوتنسكي، لكن في إطار معادلة مقلوبة الأطراف هذه المرة. معادلة يمكن اختصار ماهيتها في صيغة التساؤل الآتي: ما الذي لم تفعله إسرائيل من أجل استعادة جنديها دون أن تضطر إلى دفع ثمن باهظ ومكلف على كل صعيد؟ الجواب: لا شيء. بدءاً بالحرب وانتهاءً بالحصار والتجويع لشعب غزة بأكمله، مروراً بما بينهما من ضغوط سياسية متنوعة شاركت فيها دول إقليمية تمتلك صفة المجال الحيوي بالنسبة إلى القطاع المحاصَر. وفي كل مرة، كانت تل أبيب ترتطم بجدار الصمود الحديدي الذي شيّدته حركات المقاومة، وتمترست وراءه مُصرّةً على تحقيق مطالبها في إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين مقابل إعادة الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط. وبقي الارتطام الإسرائيلي يتكرر ويصطدم بهذا الجدار إلى أن يئس أصحابه من اختراقه، بل فقدوا الأمل من إمكان إحداث تصدُّع فيه حتى. وآنذاك فقط ــــ بحسب تعبير جابوتنسكي ــــ جاء «الاعتدال» الإسرائيلي حاملاً معه اقتراحات التنازل لحل قضية الجندي الأسير عبر تبادل أقل ما يقال فيه إنه تجاوز كافة الخطوط الحمراء المرسومة، حتى من قبل اليمين الإسرائيلي. بهذا المعنى، كانت عملية التبادل نموذجاً حسياً ومتقدماً لعملية كيّ وعي مارستها قوى المقاومة الفلسطينية، وتوصلت في ختامها إلى تكريس معادلة التبادل بوصفها الأسلوب الأوحد التي يوصل العدو إلى استعادة أسراه مهما طال الزمن، ومهما تعاظمت الضغوط وتنوعت التحولات. ويمكن القول استطراداً إن من المؤكد أن نتائج هذا السياق ستكون أكثر وضوحاً وأشد حضوراً في المستقبل عندما يُصار إلى البناء على ما حصل والتأسيس عليه.
وفي الانتقال إلى المستوى السياسي، استفاض الحديث الإسرائيلي عن آثار عملية التبادل على توازن القوى الفلسطيني الداخلي، لناحية تعزيز قوى المقاومة وتكريس دورها وحضورها الشعبي من جهة، وإضعاف سلطة رام الله وتقويض صدقيتها الداخلية، وصولاً إلى توجيه ضربة قاسية إلى عملية التسوية التي تروّج لجدواها من جهة ثانية. يشار في هذا الإطار إلى أن رئيس «الموساد» في حينه، مئير دغان، كان قد حذّر من أن اتفاق التبادل الذي كان معروضاً على حكومة إيهود أولمرت ــــ وكان أقل وطأة على إسرائيل ــــ سيكون انتصاراً كبيراً «لمعسكر المقاومة» في العالم العربي.
والحقيقة أنّ المواقف والتعليقات الإسرائيلية التي قدمت الأمور بهذه الطريقة ــــ وإن كان بعضها معارضاً للحكومة ــــ لم تنطلق من حسابات ائتلافية ليُصار إلى تأطيرها في خانة المناكفات السياسية الداخلية، بل كانت موضوعية في توصيفها إلى درجة أن الحكومة فضّلت عدم التطرق إليها في سياق دفاعها عن إيجابيات الصفقة والتقليل من سلبياتها. ويمكن القول، بناءً على ذلك أيضاً، إن ما أقدمت عليه الدولة العبرية ضمن هذا المستوى، إنما يندرج في خانة تصديع الجدار الحديدي نفسه الذي عملت عقوداً على تشييده في وعي العرب وأرادت من خلاله إفقادهم الأمل بمنطق المقاومة والكفاح المسلح، وإفهامهم بأن السبيل الوحيد لاستعادة بعض ما يرونه حقوقهم، هو التفاوض المحكوم لسطوة التفوّق العسكري الإسرائيلي.
يعني ذلك أن عملية التبادل كانت محطة للكشف عن تراجع إسرائيلي مزدوج؛ الأول أمام إرادة الإصرار الفلسطيني، والثاني من منطق كيّ الوعي الذي تعتمده تل أبيب في مواجهة محاولات أعدائها للتمرد على قدر هزيمتهم المحتومة.
يبقى الحديث عن المستوى الأمني المباشر بمعناه التكتيكي. يتخذ النقاش هنا أبعاداً عدة. أولاً، إن نجاح عملية التبادل من شأنه أن يرفع درجة الاستعداد لدى الفلسطينيين لتنفيذ عمليات خطف جنود جدد، ليس فقط لدى فصائل المقاومة التي ستزداد شهيتها لتحقيق المزيد من الإنجازات، بل أيضاً لدى فصائل العملية السياسية، وفي مقدمتها حركة «فتح» التي بقي كوادرها وقياديّوها في المعتقلات، ورأى محازبوها كيف فتح وضع اليد على جنود إسرائيليين الأبوابَ أمام إخوتهم في حركة «حماس» وغيرها للخروج إلى فضاء الحرية.
وقد نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن أحد ضباط الجيش إشارته إلى أن العنصر الأبرز في الصفقة هو غياب قياديي الذراع العسكرية لحركة «فتح» من لائحة المفرج عنهم، لافتاً إلى وجود تقدير في شعبة الاستخبارات العسكرية مفاده أن الإحباط الذي سوف يتولّد عن الصفقة لدى هؤلاء ومناصريهم، قد يؤدي إلى موجة عمليات جديدة. وأيّد أحد المسؤولين الكبار في أجهزة أمن السلطة الفلسطينية هذا التقدير حين رأى في تصريح لصحيفة «هآرتس» أن الرسالة التي تلقّاها الأسرى الذين جرى التنازل عنهم وظلّوا في السجن، هي أن إطلاق سراحهم يضمنه فقط أسر المزيد من الجنود الإسرائيليين. وتابع: «إنّ خطف جنود إسرائيليين هو مسألة متى ليس إلا».
ثانياً، تجدر الإشارة إلى المخاطر المتعلقة بعودة الأسرى المفرج عنهم إلى مزاولة النشاط المقاوم. وللغة الإحصاءات كلمة الفصل هنا، وهي تفيد على سبيل المثال بأن الأسرى الفلسطينيين الذين أفرج عنهم في صفقة أحمد جبريل عام 1985، كانوا مسؤولين عن مقتل 178 إسرائيلياً في ما بعد. وبحسب معطيات «الشاباك»، فإنه من بين المحررين الفلسطينيين الـ364 في «صفقة تننباوم» عام 2004، جرى اعتقال نحو 30 في المئة منهم نتيجة عودتهم إلى أنشطة معادية للاحتلال. ووفقاً لهذه المعطيات، فإن عدداً مهماً من هؤلاء المحررين كانوا يُعَدّون «أسماكاً صغيرة» حين الإفراج عنهم، إلا أنه تبين في ما بعد أنهم أشرفوا على عملية إعادة تشييد البنية التحتية للمقاومة في الضفة الغربية المحتلة بعد إطلاق سراحهم. وقد أعرب وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، موشيه يعالون، عن هذا القلق في المطالعة التي قدمها أمام حكومته في الجلسة التي أقرّت صفقة التبادل، حين حذّر من أن الأسرى المفرج عنهم «أُدخلوا إلى السجن مع خبرة بمستوى معين، وهم يخرجون الآن مع شهادة دكتوراه من المعتقل».
صحيح أن قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وعلى رأسهم رئيس «الشاباك» يورام كوهين، رأوا في معرض تأييدهم للصفقة أن مستوى الخطر الكامن في تنفيذها قابل للاحتواء، وأن إسرائيل قوية بما يكفي لتسمح لنفسها بإطلاق سراح ألف أسير، إلا أن الجدير بالذكر أيضاً أن موقف رئيس «الشاباك» السابق، يوفال ديسكين، كان حادّاً لجهة رفض الإفراج عن عدد كبير من الأسرى في أيّ عملية تبادل، على قاعدة أن ذلك «سيمسّ بأمن إسرائيل على نحو كبير».



تبادل أسرى إسرائيلي ــ مصري

أنجزت إسرائيل ومصر، أمس، اتفاقاً للإفراج عن 25 مصرياً مسجونين لدى دولة الاحتلال، في مقابل الإفراج عن الإسرائيلي ــــ الأميركي ايلان غرابيل الموقوف في القاهرة بتهمة التجسس لمصلحة تل أبيب، بحسب مصادر رسمية إسرائيلية ومصرية. وأورد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن «مصر وافقت على الإفراج عن ايلان غرابيل، وبناءً على طلب مصر، وافقت إسرائيل على الإفراج عن 25 معتقلاً مصرياً». وتابع البيان أن المعتقلين المصريين الذين سيُفرج عنهم، وبينهم ثلاثة قاصرين، ليسوا سجناء لأسباب أمنية. ولا يزال الاتفاق يتطلب موافقة الحكومة الأمنية الإسرائيلية التي ستجتمع اليوم، وفق البيان نفسه، علماً بأن هذه الموافقة هي إجراء شكلي. وذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية الحكومية أن عملية التبادل ستجري «خلال اليومين المقبلين». وسبق أن اعتقل القاصرون المصريون الثلاثة بعدما دخلوا إسرائيل بطريقة غير قانونية لبيع سجائر، وفق الصحافة المصرية. وكان غرابيل قد اعتُقل في 12 حزيران الماضي في القاهرة، وهو متّهم بالتجسّس لحساب الدولة العبرية.
(أ ف ب)