كل الانتفاضات العربية، ربما في ما عدا ليبيا، كانت دون أفق واضح في البدء، وجاء التغيير مفاجئاً في الغالب. وانتفاضة اليمن التي بدأت قبل الانتفاضة السورية بشهر ونصف الشهر تقريباً، لا تزال دون أفق واضح، رغم الوضوح الكامل بأن الشعب ضد النظام، وهو في الشارع يحاول أن يطرح حلولاً ليست ناجحة إلى الآن. فالشباب يريد أن يفرض المجلس الانتقالي الذي اختاره هو، دون موافقة الأحزاب المعارضة، التي اختارت بدورها مجلساً وطنياً لم يصبح هو السلطة بعد. ودول الخليج (وأميركا من خلفها) تطرح مرحلة انتقال يشرف عليها نائب الرئيس اليمني، الذي يمثّل السلطة ذاتها. والرئيس يرفض كل ذلك. ربما يمكن، إلى الآن، أن نبلور الخيارات العربية في اثنين، الأول الخيار التونسي المصري، والثاني الخيار الليبي. الأول تمثّل في «انقلاب» ولاء الجيش من دعم الرئيس والدفاع عن حكمه إلى خلعه، ومن ثم قيادة مرحلة انتقالية مضبوطة.
والثاني تمثّل في تحوّل الانتفاضة الشعبية إلى النشاط المسلح بعد العنف الذي مارسته قوات القذافي، ومن ثم دعم الأطلسي للثوار من خلال تطبيق الحظر الجوي، والعمل على تدمير قوات القذافي. وبالتالي تحوّلت الانتفاضة إلى حرب حقيقية، شاركت فيها قوى إمبريالية.
ربما كان الفارق بين الخيارين هو أن قوة القمع الأساسية، أي الجيش، كانت قادرة على أن تحيّد ذاتها عن الرئيس في كل من تونس ومصر، وأن تبقى موحدة كذلك، لأسباب عديدة ليست مجالنا هنا. بينما كانت قوى القمع عند العقيد القذافي متماسكة خلفه، ولقد توضّح أنها مشكّلة من فئات ترتبط «عقائدياً»، أو ارتزاقاً، به. بينما كان الجيش ضعيفاً ومهمشاً، وبالتالي سرعان ما انضم للانتفاضة. وهو الوضع الذي حوّل الانتفاضة إلى حرب أهلية، لم تنجح إلا من خلال الدعم الذي قدمه حلف الأطلسي من الجو، نتيجة التفوق الكبير لقوات القذافي.
في سوريا، لا شك في أن كل هذا الزمن الذي مرّ دون أن يحدث ما يشبه الخيار المصري، فرض التفكير في الخيار الليبي، وخصوصاً بعد انتصار الانتفاضة. ولقد كانت قناعة بعض أطراف المعارضة، منذ البدء، أن الشعب يعجز عن إسقاط النظام (وهو التقدير الناتج من عدم ثقة مفرطة بقوة الشعب، والثقة المفرطة بقوة السلطة، ومن ثم العجز عن إسقاطها بقوى «وطنية») هي التي فرضت التفكير في الخيار الليبي. هذا كان نشاط أطراف في معارضة الخارج بالتحديد (ربما مع وجود هذا «النفَس لدى بعض معارضة الداخل)، التي طرحت منذ الأسابيع الأولى فكرة تشكيل المجلس الوطني الانتقالي (وهي تخطئ الآن حين ذكر اسم المجلس، فتشير إلى المجلس الوطني المتشكل باسم المجلس الانتقالي). أقصد هنا بالتحديد جماعة الإخوان المسلمين، وليبراليي الخارج.
ثم انتقلت إلى الأمام خطوة أخرى حين تقدمت بفكرة الحماية الدولية (التي كانت مصوغة لديها في سياق يفضي إلى التدخل الخارجي)، من خلال قرار من الأمم المتحدة. ولقد شرحها مسؤول العلاقات الخارجية في المجلس الوطني، رضوان زيادة، بأنها تعني اتخاذ قرار من الأمم المتحدة لحماية المدنيين تحت البند السابع من ميثاقها (الذي يعطي حق التدخل العسكري). وبأن الحماية ترتبط بالحظر الجوي، ووجود المناطق الآمنة (برنامج في قناة الـبي بي سي بتاريخ 14/10/2011).
بالتالي، ربما أن الصيغة المتخيلة تقوم على فرض حظر جوي لإقامة مناطق آمنة (على الحدود التركية كما يبدو)، تصبح ملجأ المنشقين العسكريين، وقاعدتهم في الصراع ضد قوات السلطة. وهنا يعاد مشهد تقسيم ليبيا إلى شرق وغرب من خلال قسم سوريا إلى شمال وجنوب، وبدء «حرب التحرير». لكن هذا المنطق لا يلاحظ الفارق الكبير بين البلدين، وخطر تحوّل الصراع هنا إلى حرب تفتيت، من خلال فرض انقسام طائفي. فلا الوضع الجغرافي أو البشري هو كما ليبيا، ولا التكوين المجتمعي كذلك. لهذا سيكون هذا الخيار خيار تفتيت، يمكن أن يقود إلى احتلال عسكري. مما يجعله خياراً عراقياً. بمعنى أن مساحة ليبيا الواسعة وقلة عدد السكان ساعدا على هذا الشكل من الحرب، لكن وضع سوريا مختلف كما يبدو في الواقع. وبالتالي سيفضي القصف إلى تدمير بنى تحتية وقتل أعلى، وصراع أطول. ومن ثم دم أكثر.
وإذا كان هذا «التخيّل» بقوم على دور «الخارج» فلا بد من ملاحظة أن الظروف الدولية لا يبدو أنها تشير إلى إمكانية تكرار السيناريو الليبي، ربما بالضبط لأنه يمكن أن يتوسع إلى تدخل أرضي، في وضع لا الأطلسي ولا الولايات المتحدة مستعدة لحرب في ضوء أزمتها الاقتصادية الخطرة. أو ربما يتعلق الأمر بالموقف التركي بالتحديد لكونها المؤهلة عسكرياً في إطار حلف الأطلسي، ولكون أي قرار للأطلسي يجب أن يأخذ موقف تركيا، التي لا يبدو أنها تريد الحرب، في الحسبان. طبعاً دون أن نتجاهل أن استمرار العنف الدموي بالشكل الذي بات يجري كل يوم يمكن أن يغيّر من المواقف الدولية، حتى لروسيا والصين.
لهذا، سيبدو أن لا أفق للانتفاضة في ضوء تلمس أن الخيار «الوحيد» الممكن هو غير ممكن (إضافة إلى أنه غير مرغوب ومدمر). فإذا كانت الانتفاضة غير قادرة على أن تسقط السلطة وتفرض سلطة بديلة، وليست هناك إستراتيجية ولا قوى سياسية من أجل تحقيق ذلك بفعل عجز المعارضة وعفوية الانتفاضة ذاتها، فما الخيار الممكن إذا قلنا بأن لا خيار سوى انتصار الانتفاضة، وأن السلطة إلى سقوط؟
ما يبدو متوقعاً في ضوء قوة الانتفاضة واستمرارها، وبالتالي عجز السلطة عن الحسم، هو تحوّل من داخل السلطة يقود إلى تحقيق تغيير يستوعب الانتفاضة (مؤقتاً) من خلال تحقيق ما يشير إلى سقوط السلطة. هذا لا يعني إصلاحاً من داخل السلطة بل يعني «انقلاباً» على السلطة يفضي إلى «شطب» القوة الماسكة بالاقتصاد والسياسة والجيش والأمن، ودعوة إلى إعادة صياغة الدولة في تكوين جديد.
هل هذا ممكن؟ وبالتالي نعود بصيغة ما إلى الخيار المصري التونسي؟
إن عجز السلطة عن الحسم سيفرض صيرورة جديدة داخل بنية السلطة بالضرورة. فمن يشعر بأنه سيخسر في أي تحوّل في تكوين السلطة سوف يدافع عن خياره العنيف والدموي في وضع ميئوس منه، لعل (الله) يوجد مخرجاً. لكن هؤلاء ليسوا كل السلطة، ولهذا يمكن أن تتفكك «البنية الصلبة». حيث سيبدو الوضع وكأن السلطة على شفير الانهيار.