وسط بقع دماء كثيرة لطّخت صفحات الجرائد التي نشرت أمس صور معمر القذافي حيّاً مدمى أو جثة حمراء مركونة في شاحنة أو مشوّهة هامدة على الأرض، بقيت مساحة صغيرة للقراءة والتحليل الصحافي. احتفال الإعلام الفرنسي والبريطاني بالدم. لم يترك مجالاً لطرح الأسئلة الصحافية والخروج من الإطار الضيق الذي حددته صورة غير نقية أو شريط فيديو التقطه هواة. ماذا عن صور آلاف المدنيين الذين قتلوا بغارات أطلسية في الأشهر الأخيرة الماضية؟ تغييب تام في الإعلام المعني... المشارك في الحرب. وعندما يكون الخبر الأول في الإعلام صورة لجثة، تتحول المقالات إلى بيانات أو معلومات متضاربة أو... اتهامات. وحده موقع مجلة «ماريان» الفرنسية خلا من الصور والأشرطة الدامية واستعاض عنها برسم كاريكاتوري للرسام لويزون . أما الخبر الأساسي الذي شغل باقي الصحف، فهو اaلرواية التي يمكن أن تعتمد لترافق الصور الجامدة والمتحركة. جثة القذافي أمامنا فمن الذي فعلها؟
في معظم الأحيان، لم يكن التفتيش عن القاتل لاتهامه، بل إما للاحتفاء به أو لتبرئة ذمّته من عمل إجرامي ورميها على طرف آخر أو تمويهها. وحدها افتتاحية صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية حددت الجهة المسؤولة وطالبت بمساءلتها، ومقال لمارك لوسن في «ذي غارديان» البريطانية أعطى للقذافي الحق بـ«بعض الخصوصية عند لحظة الموت». فرانسوا سيرجان في افتتاحية «ليبراسيون» بعنوان «مسؤول»، أبدى قلقاً كبيراً من الطريقة التي يفتتح بها نظام جديد عهده في ليبيا. لذا، برأيه، فإن على المجلس الانتقالي أن يوضح ظروف مقتل القذافي وعلى فرنسا أيضاً أن تشرح تداعيات قصفها لموكبه. سيرجان ما لبث أن ذكّر بأن ذلك الرجل (القذافي) هو نفسه الذي استقبله نيكولا ساركوزي منذ أربعة أعوام وهو نفسه الذي يعدّ زبوناً مربحاً لبعض أسواق فرنسا ومصانعها.
اكتفت الصحف الفرنسية بهذا القدر من «المساءلة»، فيما لمّح البعض إلى «الربح الكبير» الذي قد يقطف ساركوزي ثماره في حملاته الانتخابية الرئاسية المقبلة. «لولا إصراري على القتال في ليبيا، لكان القذافي لا يزال في السلطة الآن» يكاد البعض يتخيل جزءاً من خطاب الرئيس الفرنسي حول «إنجازه الكبير».
لكن العنوان الذي تكرر في أكثر من موقع صحافي فرنسي كان: «هذا ما نعرفه عن قتل القذافي». اضطرت الصحف أمس إلى تقديم عشرات الروايات في ظل عدم تبنّي أحد عملية قتل الرئيس الليبي. «ليبيراسيون»، «لوموند»، «لوفيغارو»، «لوبوان» و«لونوفيل أوبسيرفاتور» حاولت تجميع أكبر عدد ممكن من التفاصيل، فكثرت الروايات «البطولية» عن من قتل القذافي؟ وهي تختصر على النحو الآتي:
إعلان المجلس الانتقالي على لسان محمود جبريل، أن القذافي كان حيّاً عندما قبض الثوار عليه ثم قضى خلال نقله في إحدى السيارات خلال تبادل إطلاق النار مع قوات حليفة له. لكن بعض الأشرطة المعروضة التي تبيّن أن القذافي قتل برشقات نار عندما كان وسط الثوار يلقونه أرضاً ويشدونه من شعره، تكذّب الرويات الرسمية كما تشير «لوبوان». الإعلان الثاني، جاء على لسان قائد قوات المجلس الانتقالي في جنوب مصراتة، محمد ليث، الذي أضاف لروايته تفصيلاً «بطولياً» آخر: «خرج القذافي من النفق الذي كان مختبئاً فيه، يحمل بيده كلاشنيكوف وباليد الأخرى مسدساً»، ويتابع: «أمطره الثوار بنيرانهم، فأصيب وقضى على الفور». ولمنسّق العمليات العسكرية في المجلس نفسه عبد المجيد مليقطه رواية مختلفة أيضاً؛ إذ تنقل «لوفيغارو» عنه قوله إن القذافي قضى «متأثراً بجروحه بعدما استهدفت موكبه غارة جوية أطلسية». الغارة «الشهيرة» تلك، لها أيضاً روايات مختلفة. فقوات «الأطلسي» أعلنت أن طائراتها قصفت موكباً في سرت من دون علمها أن القذافي موجود فيه. ثم خرج وزير الدفاع الفرنسي ليشرح أن الطائرات الفرنسية هي التي تعرّفت إلى موكب القذافي و«أوقفته». الأميركيون أرادوا أيضاً أن يسجوا روايتهم، فقالوا إن «طائرة حربية من دون طيار قصفت الموكب» المذكور. «لوبوان» تنقل أيضاً عن أحد شهود العيان أن «أحد حراس القذافي الشخصيين قتله برصاصة في صدره».
البريطانيون سألوا أيضاً عن ظروف مقتل القذافي وعن مستقبل ليبيا ونسبوا «النصر» إلى «حرب كاميرون»، لكن نبرتهم كانت أعلى بعد. فمعظم التقارير تضمّنت تعبيراً فجاً عن «ارتياح كبير» لموت القذافي. «لا رحمة لطاغية عديم الرحمة» كتب مراسل «دايلي تيليغراف» من سرت. و «التايمز» أعلنت أنها «تفضّل موت القذافي على محاكمته التي لم تكن لتكشف للعالم أكثر مما يعرفونه حالياً». وأجمعت بعض مقالات «ذي غارديان» و«دايلي تيليغراف» على «التبشير» بأن «نظامي بشار الأسد وعلي عبد الله صالح سيكونان التاليين».