لم ينم أبناء مخيم برج البراجنة، ليل أول من أمس، لخشيتهم من أن «تعملها» سلطات الاحتلال وتطلق الأسرى خلال الليل، فتفوت عليهم فرصة مشاهدة التبادل. تسمّروا أمام شاشات التلفزة، لكن الاحتلال «لم يعملها». لذلك، جاؤوا منذ الصباح الباكر إلى المدخل الرئيسي للمخيم بانتظار الساعة الصفر. انتظروا بلهفة تخال معها أن الأسرى المحررين ستحط رحالهم هنا.
مدخل المخيم تلوّن بألوان أعلام الفصائل: أحمر الجبهة الشعبية وأسود القيادة العامة والجهاد الإسلامي، وبينهما أصفر فتح وأخضر حماس، وفوقها جميعاً كان العلم الفلسطيني يرفرف عالياً. النسوة ملأن المكان بأهازيجهن وزغاريدهن، بينما رقّصت المسنّات بحياء كبار العمر. أمس، ابتسم أبناء المخيمات، كما لم يبتسموا منذ أمد بعيد. هنأ بعضهم بعضاً، وزعوا الحلوى على المارة، رشّوا الملبّس فوق رؤوس آخرين. للفرح هنا طعم خاص، فـ«الفرح ليس مهنة» أبناء المخيمات. همّهم الأساس تحصيل قوت يومهم في بلد يحرمهم حقهم في العمل. لكن لا بأس، ليس اليوم للشكوى. حتى الشمس، أمس، وجدت طريقاً لأشعتها إلى بعض أزقة المخيم. استمتعوا بدفئها. هي الشمس نفسها التي تلفح وجوههم، تلفح، في الآن نفسه، وجوه المحررين.
سوق الخضار هو المكان الذي يمكن أن تستقرئ فيه المزاج العام. هنا، يمكن قياس مدى طبيعية الحياة: إذا كانت الحركة كثيفة، فهذا يعني أن الحياة تسير كالمعتاد، وإذا لم تجد أحداً، فهذا يعني أن هناك أمراً «غلط». كان السوق خالياً، فيما أصوات المذيعين المتداخلة على شاشات التلفزة تملأ المكان. من بعيد تسمع أصوات قرع الطبول وموسيقى القرب، تقترب من مصدر الصوت. تشاهد حلقات من الدبكة وشباباً يرقصون على أنغام «وين ع رام الله». الاحتفال حمساوي، دعت الحركة إليه منذ ليل أول من أمس. إذاً، المناسبة حمساوية بامتياز، لكن، أمس، كان الجميع حمساوياً. حتى الفتحاويين كانوا حمساويين أيضاً. المناسبة أنست الجميع الخلافات و«الزكزكات» بين الطرفين. أمام جامع الفرقان، وقف الجميع منتظرين لحظة إعلان وصول الأسرى إلى قطاع غزة والضفة الغربية. هناك وقف مسؤولو حماس وبقية الفصائل يتقبلون التهانئ.
لحظات ويتغيّر المشهد. «الدبّيكة» يتركون الساحة إلى المقهى القريب. بدأت الصور الأولى للأسرى تصل عبر شاشات التلفزيون بانتظار نقلهم إلى غزة. الجميع أرادوا أن يروا أولئك الذين لطالما سمعوا عنهم وعن نضالاتهم من خلف القضبان. يسمّر مصطفى الجشي عينيه على الشاشة. يتكلم من دون أن يلتفت. لا يريد أن يترك مشهداً من دون أن يحفره في ذاكرته، فـ«المناسبة تاريخية». يضيف: «هذه أول عملية إطلاق أسرى أعيشها بتفاصيلها. لطالما سمعت عن عملية التبادل التي قامت بها القيادة العامة عام 1985. حينها كنت طفلاً. لكنني الآن أعيش حدثاً سيكتب في تاريخ نضالنا».
تسير في المخيم. الشوارع شبه خالية. في دكانه الصغير يجلس أحمد خليل، تتحلق مجموعة شباب حول تلفازه. «مسكرين هلق» يقول ضاحكاً، ليضيف: «تفضل حلوينة الأسرى»، مشيراً إلى طبق البقلاوة. «اليوم لن أقوم لأبيع أحداً. إذا أردت فاخدم نفسك بنفسك». لا يترك مشهداً يفوته، يرفع صوت التلفاز عندما يصرح بعض الأسرى للتلفزيون المصري. فجأة تبث مقابلة مع الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط. تعلو ضحكات الحضور «يا حرام ليك كيف مصدوم»، يقول أحدهم. يعلّق خليل على خبر إجراء فحوص طبية لشاليط، قائلاً: «الآن سيأخذونه إلى المستشفى ليعالجوه، لكن بالتأكيد لن يسأل أحد عن الحالة الصحية للأسرى الفلسطينيين». تعليق الشاب يلحقه تعليق آخر من محمد العلي: «دعنا فرحين بهذه اللحظة و«بلاش نقّ»، الأهم أنهم أُطلقوا». يصمت العلي قليلاً ليسأل: «متى سنصبح نطالب بأسير مقابل أسير؟». تبدأ الصور بالوصول، إسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة ومحمود عباس الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته يستقبلان الأسرى. المشهد يرسم ابتسامة على وجوه الحاضرين «الحمد لله وحّد الأسرى الطرفين»، يقول العلي.
في مخيم شاتيلا، تلفتك لافتتان معلقتان على المدخل: فتحاوية، تقول: «فلسطين الدولة الـ194 في الأمم المتحدة»، تقابلها أخرى حمساوية تقول: «بالمقاومة حررنا أسرانا». اللافتتان تجسدان واقع السياسة الفلسطينية المنقسمة بين المفاوضات لنيل الاعتراف، والمقاومة لنيل الحرية. الجو في شاتيلا لا يختلف عن البرج، العرس جماعي والفلسطينيون هم أهل العريس والعروس. أصوات النقل المباشر تملأ فضاء المخيم. في محله لبيع الدخان، يجلس أبو أحمد متنقلاً بين محطة وأخرى. يضحك الرجل: «مش عارفين وين بدنا نحضر». يعتمد قناة فلسطين، تدمع عيناه عندما يرى الأسرى يقرأون الفاتحة على ضريح الرئيس الراحل ياسر عرفات. يعلّق: «متى سنتوحد ونكفّ عن المناكفات في ما بيننا، انظر إلى الأسرى. هل استطعت أن تفرق الحمساوي من الفتحاوي؟». يمر خبر عاجل: «إتمام صفقة تبادل الأسرى»، يتنهد كمن أزاح جبلاً عن صدره. فهو كان خائفاً من أن تقوم سلطات الاحتلال «بما ينغصّ علينا فرحتنا ولا تطلق جميع الأسرى».