طرابلس | في ليبيا بدأت مرحلة ما بعد الثورة، تبدو البلاد كمن خرج من غرفة العمليات الى غرفة الانعاش، الجميع يترقب مصير البلد بعد سقوط العقيد معمر القذافي، بين فلتان أمني وجنون اقتصادي ودخول للإسلاميين على خط المواجهة، والأهم وضع شركات أمنية أجنبية أقدامها الأولى. كل هذا والمجلس الانتقالي إحدى عينيه على معارك بني وليد وسرت والأخرى على علاقاته بالمجتمع الدولي.نصل طرابلس آتين من الحدود التونسية، فالمطار، وبحسب مسؤوليه، بحاجة إلى شهر على الأقل ليعود كسابق عهده. اجراءات الدخول تبدو كما هي أيام النظام السابق، العرب يدخلون بلا تأشيرة والأجانب يُسألون (شكلياً) عن التأشيرة، وعلى طول الطريق أعلام الاستقلال ترفرف وصور للحاكم المختبئ تعرضت للتمزيق، فيما كُتب على بعضها الآخر عبارات مثل: «تحررنا» و«هذي الحرية» و«شكراً فرنسا وقطر وتركيا وشكراً للناتو».
نصل طرابلس مع ساعات الفجر الأولى. تبدو المدينة وهي مستيقظة لتستقبل صباح يوم جديد هادئ. البحر يبدو هادئاً هو الآخر، لكن لا أحد يمشي على شاطئه أو يصيد من أسماكه. الشوارع تبدو خالية، ما يمنحنا وقتاً إضافياً للتجول في المدينة، حيث تختلط العمارة العصرية الحديثة بنظام العمارة التقليدي المغاربي، فيما يبدو البحر مكمّلاً للمشهد مع شوارع عريضة تحاذيه.
تبدو معظم المشاريع حديثة العهد، ونعرف لاحقاً أن العاصمة بدأت تشهد نهضة عمرانية ضخمة قبل ست سنوات مع بدء نشاط سيف الإسلام القذافي وإعداده لوراثة العقيد. لطرابلس في لقبها حكاية، فهي لم تنل لقب العاصمة إلّا بعد محاولات قديمة لجعل بنغازي في الشرق عاصمة ليبيا، ثم سعي القذافي إلى نقل العاصمة إلى سرت، بعقد عدد من الاجتماعات والمؤتمرات ونقل وزارات إليها، ثم تخطيطه لجعلها في مدينة البيضاء قبل أن يقرر البقاء في طرابلس.
يشعر الزائر للعاصمة الليبية بفرح وغموض يكتنف سكان طرابلس. فرح لسقوط طاغية حكم البلاد اثنين وأربعين عاماً، وتساؤل عن مصير البلاد بعد الثورة. الجميع يعيش هدوء ما بعد العاصفة. الحياة عادت إلى طبيعتها والناس عادوا إلى أعمالهم، لكن رصاصاً يخترق السماء بين الفينة والأخرى والسبب مجهول. ثمة فوضى إدارية تعيشها عروس البحر منذ انهيار حكم ملك ملوك افريقيا. فشؤون المدينة لا يعرف من يديرها رغم تشكيل مجالس محلية في الأحياء، لكن لم يتغير شيء، وحتى المجلس العسكري، الذي دعا إلى سحب المظاهر المسلحة من الشارع، لا يبدو أن دعواته تلقى آذاناً صاغية بوجود ميليشات لا تعترف بالمجلس، مستغلّة بالطبع غياب الحكومة الجديدة حتى الآن.
المحال التجارية تمتلئ بالسلع وغالبيتها تونسي الصنع، لكن جنوناً ضرب الأسعار لتصل الى أضعاف أضعاف سعرها الأصلي. ثمة أزمة مالية اقتصادية تضرب بلاد النفط، رغم التحرير، مع تخبط بعض الشركات وتأخرها في صرف رواتب موظفيها. هذا إن لم نتحدث طبعاً عن رواتب المؤسسات الحكومية. أزمة تنسحب على قطاعات عدة ليس أولها الكهرباء والماء، والتي يقول عنها الأهالي، رغم استمراريتها في العاصمة، فإن ضواحيها تشهد انقطاعات متعددة. الأمر نفسه يحدث أيضاً في مدن أخرى بحسب قولهم.
أما الحال الصحية فتبدو أفضل بقليل، مقارنة مع الأيام التالية لسقوط القذافي، حسبما يقول أحد ممرضي أكبر مستشفيات طرابلس. فالنقص في المعدات والمواد الطبية وصل حدوداً غير معقولة مع تزايد عدد الجرحى من الثوار وكتائب القذافي.
في الشوارع، هناك من فجّر طاقاته بالرسم على الجدران بطريقة «الغرافيتي». رسوم تسخر من القذافي كاريكاتورياً. يبدو الأمر طريفاً بعدما كان الزعيم القائد يحتل بصوره وشعاراته وأقوال كتابه الأخضر كل الميادين. هناك في ساحة الشهداء، أو ما كان يسمى الساحة الخضراء، حيث كان أنصار النظام يتظاهرون حتى قبل ليلة من سقوطه، أُزيلت الصور الخاصة بـ«الأخ القائد» اليوم، وكلماته طلاها اللون الأبيض لتحتل صور الشهداء الذين سقطوا أيام الثورة مكانها. والى جانب صور الشهداء ترتفع أعلام ليبيا الجديدة مع أعلام فرنسا وتركيا ومصر وتونس وأيضاً السعودية.
إلى جوار ساحة الشهداء، لن يكون مستغرباً ان تشاهد أسلحة ثقيلة يُجمع أكثرية أهالي العاصمة على أنها من لزوم ما لا يلزم، فهناك من دخل مع الثوار وبات اليوم يفرض الأمر الواقع بقوة السلاح، لتتحول مشاعر المليون ليبي المقيمين في طرابلس، من الخوف من لجان القذافي الى الخوف من مسلحي الثورة. مسلّحون يسيرون بفخر مع الكلاشنكوف، أو بسيارات تتحرك من مكان إلى آخر وهي مدججة بالسلاح.
ولتكتمل الصورة، يروي بعض الأهالي أن المسلحين يقدمون على اعتقال من يشاؤون وابقائه رهن التوقيف وفق مزاجهم، والتهمة بالطبع التعامل مع كتائب القذافي، ليس هذا فحسب، بل هناك تسع شركات أمنية أجنبية، معظمها أميركي، دخلت البلاد وأقامت قواعدها مستغلّة غياب سلطة فعلية. هذا الخبر ينتشر انتشار النار في الهشيم في طرابلس، ما دفع المجلس العسكري إلى تأكيده وإبلاغ الأمم المتحدة عنه.
في المدينة القديمة، هناك توتر يبدو زائداً عن الحد، نسأل عن السبب لنعرف أن ليبياً يعتنق اليهودية قد قرّر إعادة فتح كنيس يهودي أغلقه القذافي أيام حكمه. يُدعى الكنيس الوحيد في البلاد كنيس «داربيشي». الرجل دايفيد جربي، معتمراً القلنسوة اليهودية، يدخلنا إلى المبنى الواسع الذي كان مُغلقاً بالحجارة قبل أن يعيد دايفيد فتحه بهدم الحجارة، وفي داخل المعبد نستطيع تمييز كتابات بالعبرية يقول الرجل إنها من التوراة وتتحدث عن وصايا من العهد القديم.
في الخارج، لوحات ورقية تتهم الرجل بالتواطؤ مع الصهيونية ونظام القذافي، شعارات مثل «اذهب يا دايفيد الى حيث تنتمي فلا مكان لصهيوني بيننا». لا يعطي الرجل أي اهتمام لهذه الشعارات، ويعود لإكمال عمله في ترميم المعبد.
وللحساسية الدينية في طرابلس حكاية أخرى مع هجوم سلفيين على أضرحة للصوفية في المدينة القديمة، حيث ضريح الشيخ المتصوف عبد الله الشعاب. وعلى مسافة ليست بقريبة، يقع مقام سيدي عبد الجليل، حيث الزاوية البرهانية الشاذلية. هناك أحد معالم الصوفية وتعليم مبادئها وأنشطتها الثقافية ودروس في الفقه، لكن هستيريا العنف الديني وصلت ذروتها مع اقتحام الزاوية وتدميرها ونهب محتويات المنارة.
يروي لنا خالد عبد الله، وهو مدرس للقرآن، أن هذه الحادثة نالت ضجتها لمتابعة الإعلام لها، على عكس حالات مشابهة قد حصلت في الأيام الأخيرة.
هكذا نكتشف اقتحام الجماعات المسلحة لمسجد المصري إلى شمالي شرقي العاصمة، حيث جرى نبش لقبور إمامين من أئمة الصوفية. وقبل ذلك تتعرض سلسلة من القباب الصوفية لتفجير، وخصوصاً في منطقة الجبل الأخضر. وتمتد العمليات إلى باقي المدن الليبية حتى مصراته وبنغازي. يستغرب الرجل من تصرفات كهذه، وخصوصاً أن غالبية الليبيين، بل وسكان شمال أفريقيا، لا مشكلة لديهم مع الطرق الصوفية، معتقداً بأن هذه الجماعات المسلحة من الوهابية الذين يرون أن زيارة الأضرحة كفر، وبالتالي فإن إزالتها هي نوع من التقرب إلى الله.
ويشير خالد إلى انتشار التيار الوهابي انتشاراً واسعاً جداً مع سقوط نظام القذافي، ليتجول بعض المقاتلين بلحىً طويلة في شوارع طرابلس، بل ويأمرون بعض المحال بالإغلاق أو ايقاف بث الموسيقى تحت تهديد السلاح.
أما في الليل، فتسير سيارات مدججة بالمقاتلين لتدخل المساجد والمقابر وزوايا العلم وتقتل من ترى أمامها من المريدين والزائرين وتنسف القبور، مشيراً الى أنهم يطوقون المكان قبل دخوله ويتحدثون بلكنة جنوبي طرابلس والصحراء. وقال إن هؤلاء العناصر ينسقون في ما بينهم عبر الأجهزة اللاسلكية.
نعود أدراجنا إلى قلب العاصمة، والهدف هذه المرة معقل «ملك الملوك» (باب العزيزية)، الحصن الأكثر خطورة للقذافي. لكن رجلاً مسلحاً يعترضنا ويمنعنا من الدخول ليعود ويسمح لنا بعد مرافقة أحد العناصر لنا. يهمس العنصر «قبل أشهر كان مجرد المرور أمام هذا الحصن هو أشبه بفيلم رعب، بل لم نكن نجرؤ على النظر تجاهه، ودخولكم اليوم هو دليل على انتصار الثورة».
هكذا يمضي الليبيون أيامهم بعد الثورة، منتظرين الغد الذي يتساءلون عن مصيره وسط تلاطم أمواج المتصارعين على «زنقات» البلاد.



في رحاب باب العزيزية

البوابة الاسمنتية الضخمة تبدو مهدمة، وفي الداخل طرق واسعة ومزارع ضخمة مع مساحات خضراء وافرة تخفي وراءها قبة كبيرة لا يسمح لنا بدخولها. في الداخل ينتصب بيت العقيد المهدّم منذ الثمانينيات بفعل غارة حربيّة جويّة أميركية. هنا يذكّرنا مرافقنا بذاك اليوم الذي وقف فيه القذافي مخاطباً ومحذراً في خطابه الشهير: «دقت ساعة العمل، لا رجوع الى الأمام». الحصن المثير للجدل يسوده هدوء تام لا يشبه هدوء يوم دخول الثوار لمعقل العقيد. على الجدران نقرأ عبارات عن الثورة والحرية. يقول مرافقنا إن عبد الحكيم بلحاج وأعضاء المجلس العسكري بذلوا جهداً كبيراً قبل أن يخرج كل الثوار من الحصن بعد تحريره، لكنك لا تستطيع لوم أحد فهم في عقر دار من حكمهم بجنون لأربعين عاماً.