«صفقة التبادل سحقت اسرائيل»، «التأسيس لمزيد من الإرهاب»، «الصفقة تشجع الفلسطينيين على مزيد من عمليات الأسر»، «اسرائيل تجثو على ركبتيها»، «الثمن المؤلم»... هذه العبارات، وما شابهها، هي عينة من التوصيفات التي أطلقها الكثير من المسؤولين والمعلقين الإسرائيليين في اعقاب إعلان صفقة تبادل الاسرى مع حركة «حماس». مع ذلك، ورغم الثمن المؤلم، المعلن اسرائيلياً، إلا أن الصفقة تحظى بتأييد عارم من قبل الرأي العام الإسرائيلي. في المقابل، لا يمكن إلا أن نرفع القبعة لحركة «حماس». يكفي أنها خططت، وبادرت، وأسرت، وضحَّت، وحصَّلت أثماناً، في زمن الردة العربية عن فلسطين، بل والتحالف مع الاسرائيليين. ما كان بالإمكان تحقيق هذا الإنجاز بوسائل اخرى. رفع القبعة يعود الى تحرك حماس الجهادي في ظروف ضاغطة وصعبة، بدءاً من شراسة الحصار الإسرائيلي والعربي، وتحديداً المصري، وصولاً الى مواجهة وتعطيل الإمكانات الاستخبارية الإسرائيلية الهائلة حيال قطاع غزة.
ما الذي دفع باسرائيل، إلى «الموافقة» على دفع أثمان مؤلمة وفي هذا التوقيت؟
لا يكفي الحديث عما يُطلق عليه في الأوساط الإسرائيلية مجموعة «القيم»، التي تربت عليها الأجيال الإسرائيلية المتوالية، والاستعداد لدفع الأثمان لاسترداد جندي وقع في الأسر. لا تكفي هذه العبارات الرومانسية رغم تغلغلها فعلاً في الوعي الاسرائيلي.
إذ إن للقضية وجهاً اخر، أساسياً وجوهرياً، يتصل بالأمن الاسرائيلي وهيبة الدولة وصورة أجهزتها الأمنية والعسكرية ومستوى ردعها لدى جمهورها، ولدى اعدائها على حد سواء. وهنا تكمن مشكلة القيادة السياسية الإسرائيلية، في أنها مضطرة إلى الأخذ بالاعتبارين معاً، لكن مع تحديد نقطة التوازن بينهما، قدر الإمكان.
هل تمكن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، من تحديد هذه النقطة (التوزان)، وبالتالي توصل إلى ضرورة قبول دفع أثمان ما كان يخطر على بال أنه سيوافق على دفعها يوماً، وتحديدا انه هو بالذات، مشبعٌ بالمواقف الرافضة لهذا النوع من الصفقات. الجواب اشكالي، وغير سهل، لكن المؤكد، في أعقاب إقرار الصفقة، ان إسرائيل وصلت الى نقطة لا يمكنها فيها إلا أن تقر بعجزها ومحدودية القدرة لديها على إحداث اختراق استخباري أو أمني حيال الفلسطينيين، ما دفعها إلى قبول صفقة التبادل، كما هي عليه، رغم ما تحمله من أخطار كامنة، على إسرائيل والأمن القومي الإسرائيلي.
بعبارات اخرى، ما كانت حكومة اسرائيل لتوافق على الصفقة، لولا اليأس الذي أصاب الأجهزة الأمنية الاسرائيلية، من إمكان تحرير اسيرها، عبر أساليب أمنية وعسكرية.
وبالتالي فإن منشأ كل هذا الإنجاز، يعود أولاً وعلى نحو أساسي، إلى نجاح حركة حماس في توفير إجراءات أمنية خاصة بالأسير وظروف الأسر، حالت دون وصول العدو إلى تحديد مكانه، أو في حال تحديد المكان، الحؤول دون نجاح مغامرة إنقاذية، وجدت الأجهزة الأمنية في اسرائيل أن أثمانها ستكون اكبر بكثير من فوائدها، وقد تؤدي بالفعل الى زيادة الأزمة لا إلى إنهائها.
بالطبع، في هذا السياق، لا تقوى حكومة نتنياهو، وأي حكومة اسرائيلية أخرى، على المخاطرة بحياة جنديها الأسير، بعدما تحول الى رمز، أو بحياة جنود قد يسقطون او يقعون في الأسر، خلال محاولة إنقاذهم. وبحسب المؤشرات الواردة من تل ابيب، أقرت اجهزة اسرائيل الامنية، أمام نتنياهو، بأنه لا سبيل عملياً لإنقاذ شاليط، من خلال عملية امنية خاصة، وهذا بالتأكيد، نجاح كبير جداً للجسم العسكري والامني في حركة حماس.
في السنوات القليلة الماضية، ونتيجة لضيق الخيارات الاستخبارية والامنية، راهنت اسرائيل كثيراً على اطراف ثالثة، لتطويع موقف حماس، بـ «الإقناع و/ أو
الإكراه».
أدى هذا الدور، على نحو أساسي، النظام المصري القديم... وحتى الأمس القريب، كانت اسرائيل لا تزال تراهن على هذا العامل وإمكاناته. سقوط نظام الرئيس حسني مبارك، اسقط هذا النوع من الرهانات، لكن الفضل يعود، أساساً، الى منعة حماس وصبرها ومواجهتها الصلبة للضغوط المصرية، طوال السنوات الماضية، ما فوَّت على اسرائيل النتائج المتوخاة من الضغط المصري، رغم جسامة الضغوط وضخامتها.
في سياق تعليله لق
بول صفقة التبادل، بصيغتها الحالية، شدد نتنياهو على ما سماه «العواصف التي تضرب الشرق الأوسط». واشار الى أن «نافذة فرص يمكن أن تُغلق... قد لا نجد بعدها من نفاوضه».
من الصعب تفسير كلام نتنياهو، حيال «العواصف»، وربطه بشاليط، إلا بما يتعلق تحديداً بتطورات الساحة المصرية.
وبناءً عليه، أي سيناريو يفترضه أو يحتمله أو يرجحه نتنياهو لمصر، حتى يضع مصير شاليط على
المحك؟
يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يُقدِّر، أو يتخوف من أن تطور الساحة المصرية المستقبلية، قد يؤدي الى تعزيز موقف حماس ومكانتها، وبالتالي تعزيز موقفها وتصلبها في المفاوضات وشروطها في صفقة التبادل المفترضة، ما يعني وضع إسرائيل في هذا السياق، أمام خيارين، إما دفع أثمان أكبر، أو الرفض المطلق، مع ما يعنيه ذلك من إطالة لمدة اسر شاليط، بل ويمكن أيضاً أن يهدد مصيره، وهذا ما لم يُخفه عدد من المسؤولين والمعلقين الاسرائيليين، بأن يتحول الى رون اراد
جديد.
وكما هو معروف، فإن سابقة اراد حوَّلت مصيره الغامض إلى كابوس يضغط على قادة اسرائيل وجمهورها، وخاصة أن اختفاءه أتى بعد رفض الحكومة الإسرائيلية في حينه، العرض الذي قُدِّم إليها، على أساس أنه ثمن مبالغ فيه، ومن الصعب على إسرائيل قبوله.