«أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر». هذه الكلمة التي قالها المسيح في رده على جواز دفع الجزية للقيصر أم لا، هي الجواب على بعض التساؤلات التي يطرحها أطراف الأزمة السورية على المسيحيين بسؤالهم هل أنتم مع القيصر «النظام» أم في صفوف المعارضة؟المسيحيون في سوريا هم أقلية من ناحية العدد، لكن نظرتهم إلى ذاتهم ودورهم في وطنهم لا تأخذ بالحسبان هذه النقطة، فالذي يحدد الأكثرية والأقلية ليس فقط العدد بل الخيار الذي تأخذه الجماعة. المسيحيون اختاروا الحضور الفاعل في الحياة السورية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو ليس فقط اختيار جماعة، بل هو نتيجة حتمية لانتمائها وحياتها التاريخية على هذه الأرض.
لم يشكل المسيحيون كتلة سياسية كالتجربة السياسية للطوائف في لبنان، أو يمروا بتجربة المصريين المسيحيين (الأقباط)، فقد أسسوا أحزاباً وجمعيات من نسيج المجتمع السوري المتنوع، وكانوا دائماً تحت منطق دولة القانون والمؤسسات، وتحت هذا السقف هم في اتجاهات سياسية مختلفة. «القيصر» بالنسبة إليهم هو الدولة وليس النظام، وحضورهم ليس مرتبطاً بوجود نظام معين، والأمثلة التاريخية عديدة من قبل الفتح الاسلامي إلى بدايات الدولة الأموية في دمشق، مروراً بكل المراحل وصولاً إلى عصور النهضة والاستقلال ودورهم في بناء الدولة الحديثة. فكان الحضور دائماً، إن كان في مؤسسات الدولة أو في تيارات معارضة للنظام الحاكم.
حديث لا بد منه بعدما كثر الكلام في الفترة الماضية عن موقف المسيحيين والكنيسة من الأزمة السورية، وخصوصاً من بعض المعارضين الذين يتوجهون إلى تصنيف المسيحيين كتلة واحدة تحت لواء النظام السوري، وهي ما يمكن أن تكون مقاربة خاطئة للواقع، فيُطلب من المسيحيين الخروج في تظاهرات، وتوجّه إليهم الملامة لعدم مشاركتهم القوية في هذه التحركات ويُطلب خروجهم بتظاهرة من احدى الكنائس أسوةً بالخروج من المساجد. هذه النظرة يمكن تحليلها بعملية حسابية بسيطة، إذ يؤلف المسيحيون في سوريا نسبة 8 إلى 10 في المئة، بينما يؤلف المسلمون السنة ما بين 60و 70، وهذه النسبة موزعة على كل الخريطة السورية، ولذلك فحتى لو نزل المسيحيون كافة في سوريا فلن يظهر هذا العدد نسبة إلى عددهم وتنوع انتمائهم السياسي، بالإضافة إلى أن نسبة المسيحيين المشاركين في التظاهرات تتناسب مع عددهم الإجمالي، ومن هنا لا يمكن أحداً الادعاء بأن عدم مشاركتهم يبقي النظام متماسكاً.
كذلك فإن الادعاء بعدم مشاركة المسيحيين في المعارضة يتناقض مع دور المعارض البارز ميشيل كيلو الذي قضى في السجون السورية معارضاً سياساتها، بالإضافة إلى المعتقلين مثل روجيه سركيس ويارا نصير والدكتورة رفاه ناشد وغيرهم الكثير.
أما بالنسبة إلى موقف الكنيسة، فمن الواضح أن رأس الهرم في معظم الكنائس في موقف داعم للنظام، وهذا ما يدفع إلى تصنيف المسيحيين تحت لواء الحكم في سوريا، لكن لا يدل هذا على أن كل الاكليروس هم جميعاً في هذا الصف الداعم، فهناك رجال دين عبروا بمواقف صريحة عن أفكارهم الإصلاحية، ومن بينها بيانات الرهبانية اليسوعية التي اتخذت موقفاً موضوعياً. فلم تقف مع طرف ضد آخر وتوجهت بنداءات إلى كل أطراف الأزمة باستخدام لغة الحوار والتفاهم، بالإضافة إلى سكوت الكثيرين عن فتح كنيسة أم الزنار أبوابها للمتظاهرين في حمص في بدايات الأزمة.
ومن هذا المنطلق، فإن من المنطقي توخي الحذر وعدم الوقوع في فخ تصنيف السوريين المسيحيين أو أي طائفة أو فئة كتلة واحدة في جهة معينة، اذ انه يعد لعباً بالنار يتحمل الطرفان مسؤوليته. أما إبقاء الأزمة ضمن سياق وجود تنوع بين موالين للنظام وممعارضين له، نتيجة التنوع في المجتمع السوري، فيبقيها ضمن أبعادها السياسية والاجتماعية.