من وراء المؤامرة؟ لم يحدد رئيس الحكومة الدكتور عصام شرف أية مؤامرة ومن خلفها، لكنها على ما يبدو إعادة إنتاج لخطاب مبارك في مثل هذه الأزمات، خطاب يشير إلى كيان وهمي، ورمز كبير يلخص في: أصابع خارجية. الأصابع تلعب من أيام مبارك، ورئيس حكومة ما بعد الثورة ليس لديه إلا استدعاء الأصابع، لكي ينام جمهور، انفجر لغم «الفتنة» في وجهه، على الهواء تحت شعار واحد: البلد ها تولع.
الجمهور نام بعد إعلان حظر التجوال في وسط العاصمة. مقر الثورة، ومجاله المحرر، تحول إلى شوارع رعب بداية من المجهولين، وصولاً إلى المجلس العسكري الذي لم يظهر أحد منه، ولا حتى ليفسر لماذا قرر شخص ما يرتدي ملابس عسكرية أن يطلق العنان لملاهي المدرعات. سائق المدرعة أُصيب بلوثة جنون، طارد بعدها المتظاهرين ودهسهم في مشاهد لم تعد بالذاكرة إلى ليلة ٢٨ كانون الثاني فقط، لكنها أشارت إلى اعتماد القتل بالدهس وسيلةً في مواجهة جموع أكبر من طاقة قوات الأمن.
الدهس ترك آثاره رعباً وفزعاً وتشويهاً على وجوه ضحايا أكملت عليهم الدائرة بأخبار كاذبة عن اعتداء (اعتداء الضحايا) على الجيش. الخبر الكاذب تحول إلى نداء أنزل مجموعات على عماها تدافع عن الجيش من «افتراء» الضحايا. وظل الجيش صامتاً.
الكذب والصمت والشحن على الطائفة، أصاب الجميع بخرس لم تقطعه سوى بعض مكالمات تليفونية على برامج الهواء تحاول وقف السيلان الطائفي. الشوارع مرعبة، وقلب القاهرة أصبح تحت سلطة البلطجية لساعات، مارسوا فيها سلطتهم على الهوية. يوقفون العابرين ويسألون عن الهوية الدينية.
أين هي المؤامرة؟ ومن هم أصحابها ؟ الكنيسة صمتت لأنها لم تعد مسيطرة على شباب قرروا مغادرة قلعتهم (الكنيسة) والبحث عن مساحتهم في الشارع، شباب مسيحي يهتف للصليب ويدافع عن يسوع. يسير متخفياً تحت قناعه المقدس، بينما فتح الدم في ليلة مجزرة ماسبيرو طريقاً للخروج من تحت الراية والقناع، وحدهم في الجنازة هتاف: «يسقط يسقط حكم العسكر».
العسكر وحدهم أداروا المعركة، من دون غطاء سياسي، ليقفوا لأول مرة في مواجهة أزمة بهذا الحجم. هل أشعلوها على طريقة جنرالات تموز حين دبروا انفجارات ليحدثوا فوضى تجعل الشعب يلهث إليهم: احمونا. أم أنها أزمة إدارة؟ المجلس يشعر بقوة لا يملك أدواتها، ويريد السيطرة من دون قدرات على السيطرة، وهذه هي المؤامرة الوحيدة الواضحة المعالم، التي تقود البلاد إلى مرحلة جديدة تقترب فيها من الكارثة.
ربيع دموي، تريده جهات، أو تقود إليه، ليبدو ميراث الدم أول مرحلة مختلفة تماماً. مرحلة خارج السيطرة من الجميع، تبدو هذه لحظة فارقة تكون
مصر أو لا تكون. البابا ظهر بعد غياب طويل كأنه قادم من زمن بعيد، زمن دولة عجوز، وبطاركة قادوها إلى شيخوخة مبكرة. البابا قال: «غرباء اندسوا». خطاب يشبه خطاب أصابع خارجية، تردده سلطة لم تر شيئاً، لتعلن النقاء في معسكرها؛ لأن من معه البطريرك لا يخطئ أبداً.
لا البابا ولا المجلس لديهما طاقة على مواجهة حقيقية لما حدث. إنها مظلومية قديمة، مؤجلة، لم يلتفت إليها عقل الاستبداد، وتركها لأنها أقلية على خط الانتظار، بينما اجتهد في مداعبة الأغلبية.
المجلس يسير على درب مبارك ويسارع بإلقاء اللوم على الشعب، بينما كل من له عين ترى سيعرف أن الفتيل اشتعل لأن المجلس بطيء لا يمتلك رؤية سياسية ويتعامل بمنطق السلحفاة العجوزة الواثقة من قوتها بلا داع. والحكومة ساذجة ومرتعشة ومخطوفة.
الواضح كل الوضوح أن هناك مشعلي حرائق، أولهم صاحب قرار استخدام العنف مع المتظاهرين، لأنه لا بد من اتفاق نهائي وواضح على أن التظاهر السلمي حق مشروع، وحماية المتظاهرين حق مشروع.
هناك أيضاً وزير الإعلام وجيش التضليل الذي بدلاً من أن يطهّر مؤسسة الإعلام منه، تفرغ لمهمة مفتش التراخيص وتجييش الإعلام للدفاع عن الجنرالات، الذين أتوا به إلى موقعه وترك الجراثيم والبكتيريا القاتلة تسرح في المبنى حتى أشعلت البلد بتحريض مباشر وسافر. هل هناك عنصرية بين قوات الأمن؟
الموضوع أكبر من العنصرية، أقرب إلى غياب أي رؤية سياسية يمكنها أن توجه الضابط أو الجندي في الشارع إلى أنه يحمي المجتمع لا يحمي قادته، وأنه ليس في مهمة دفاع عن البلد من المتظاهرين، ولكن في مهمة يشارك فيها المجتمع في صناعة مستقبل بلا استبداد.
لم يكن بيان الإخوان المسلمين على قدر اللحظة، كما أجلت القوى السياسية الأخرى بيانها، بعدما أظهرت المداولات، في قاعة ساقية الصاوي في منطقة الزمالك، أن مسودة البيان فاترة، أو باردة تقريباً.
البيانات وقعت في فخ موضوعية قديمة، تصنع غمامة كبيرة تعمي عن مشاهدة الخراب النائم بين الجدران. البيانات بردت أو فشلت عندما ابتعدت عن تحميل المسؤولية الأولى والكبيرة للمجلس العسكري الذي مهمته حماية البلاد بمتظاهريها ومواطنيها العزل، بأيديهم العارية وأحلامهم البسيطة في دولة عدل لا يشعرون فيها بأنهم ضيوف غير مرغوب فيهم أو غرباء في دولة الظلم.
الأحلام تحولت إلى ترانيم جنائزية والاحتفالات بإزاحة الديكتاتور استبدلوها بجنازات ضحايا. إنها لحظة فارقة.