لا حاجة الى خبرة سياسية وتحليلية كبيرة، للقول إن دعوة اللجنة الرباعية إلى استئناف المسيرة التفاوضية بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، ومن دون شروط مسبقة، ليست الا جزءاً من الاساليب الالتفافية لمواجهة طرح إعلان الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة. علماً بأن الرباعية نفسها، كانت طوال الاشهر الاخيرة، قد أخفقت في اصدار بيان عنها، يدعو الى استئناف المفاوضات. في موازاة ذلك، كان واضحاً ان مسارعة الحكومة الاسرائيلية إلى إعلان موافقتها على الدعوة، ليست الا محاولة لرمي الكرة في الملعب الفلسطيني، وإظهار السلطة طرفاً معرقلاً للمفاوضات.
ثبت أن الدعوة الى طاولة المفاوضات، والتفاوض نفسه، لا يجديان نفعاً، حتى لأولئك الذين يرفعون شعار التسوية طريقاً لحقوق او جزء من حقوق، في ظل اكتفاء السلطة بفتات الارض، وفي الوقت نفسه التخلي عن اوراق القوة والضغط لديها على اسرائيل، فلا عجب أن الاخيرة ستتمسك اكثر بمواقفها وتعنتها وتعمل على مزيد من التنازل، وتخليد المفاوضات بلا طائل، وصولاً الى مكاسب اكثر. من هنا، في ظل عدم التبدل في مواقف اسرائيل، بل تعنتها اكثر، رغم الخطوة الفلسطينية الاخيرة في الامم المتحدة، تأتي دعوة الرباعية الدولية، التي حاولت «إغراء» الجانب الفلسطيني وتأمين مخرج للتراجع عن مطلب الدولة الفلسطينية، عبر تحديد جدول زمني للمفاوضات، والاعلان عن إمكان الطرفين التوصل إلى اتفاق نهائي قبل نهاية عام 2012، على أن تتوصل اسرائيل والسلطة الى حزمة «اقتراحات كاملة»، خلال ثلاثة اشهر، حول الترتيبات الأمنية والحدود، مع التزامهما بـ«تقدم جوهري خلال ستة أشهر».
إذا وافق الجانب الفلسطيني على اقتراح الرباعية الدولية، فإن الالتزام الطبيعي منه، في المقابل، هو التخلي عن طلب ضم فلسطين كدولة كاملة العضوية للامم المتحدة والعودة الى «معمعة» التفاوض، بلا طائل في ظل تعنت اسرائيلي، سيكون اكثر حدة على طاولة المفاوضات، في رد فعل طبيعي على التراجع الفلسطيني.
لقد خبر الفلسطينيون جيداً في الماضي معنى «الوعود» والمراحل الانتقالية والاتفاقات المؤقتة وغيرها، بلا اي جدوى او فائدة، بل مكنت اسرائيل من تعزيز مواقفها ومواصلة قضم اراضي الضفة الغربية والقدس. ولا يوجد، في ظل دعوة الرباعية، ما يشير الى تطور جوهري ما طرأ على موقف قادة تل ابيب تجاه القضايا الاساسية العالقة بين الجانبين، يؤدي الى تبديد العراقيل والتوصل الى اتفاق فعلي حول اعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، كما يطرح اصحاب نظرية التفاوض مع اسرائيل، اي الاكتفاء بما يربو على مساحة 22% من فلسطين. بل تبدو الهوة واسعة جداً بخصوص القضايا الأساسية، بين الحد الأقصى الذي يمكن الحكومة الاسرائيلية تقديمه، والحد الادنى الذي يمكن السلطة الفلسطينية قبوله وتسويقه وسط جمهورها.. خصوصاً أن المساحة التي يمكن للطرف الفلسطيني التنازل فيها اصبحت ضيقة جداً. فضلا عن ان الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، حدد السقف الرسمي للتسوية، بشعار دولة عاصمتها القدس (الشرقية)، ضمن حدود عام 1967، وهو سقف بات من الصعب التراجع عنه. كما ان انتفاضة الأقصى، بكل ما تضمنته من تضحيات، وما تلاها، وضعت بدورها حداً لمسلسل التنازلات الرسمية، ولم يعد بالإمكان التسويق لأي صيغة تنازلية إضافية، وفي مقدمتها التخلي عن القدس.
مقابل ذلك، توجد خصوصية واضحة لمدينة القدس، لدى الجانب الإسرائيلي (اليهودي)، بكافة تياراته السياسية والإيديولوجية، فضلاً عن واقع الاستيطان الواسع الذي فرضه الاحتلال في هذه المدينة. هذا إلى جانب الإشكالية المستعصية على تأمين حلول ابداعية ترضي الطرفين، جراء تداخل قضية المسجد الأقصى مع الادعاءات الإسرائيلية حول «جبل الهيكل»، المقدس لدى اليهود. إلى ذلك، تبدو قضية القدس شديدة التعقيد، الأمر الذي حال طوال السنوات الماضية دون التوصل إلى تسوية نهائية حولها، وتأجيلها مرارا وتكرارا الى مرحلة أخيرة من التفاوض. وفي هذا الاطار، تجدر الاشارة الى ان حكومة نتنياهو، لم تتمكن حتى من تجميد الاستيطان في القدس الشرقية، فكيف بها إذا حاولت بت مصيرها؟
القضية الثانية في حزمة المسائل الاساسية العالقة بين الجانبين، هي قضية اللاجئين الفلسطينيين، التي يصرح ويعلن الاسرائيلي عن رفضه لها بوضوح، بوصفها خطاً احمر ويوجد إجماع يهودي حولها، يشمل كافة التيارات السياسية في اسرائيل. والجانب الاسرائيلي يمتنع حتى عن اتفاق شكلي بلا مضمون، يمكن السلطة من تمرير التنازل عنهم، وسط الجمهور الفلسطيني.
في اطار القضايا الاساسية الاخرى، كانت الادارة الاميركية، قد حاولت ضمن مساعيها الاخيرة، تجزئة قضايا الوضع النهائي، عبر طرح قضيتي الترتيبات الامنية والحدود على طاولة المفاوضات، وتأجيل القضايا الاخرى لمرحلة لاحقة. بحسب الرؤية الاميركية، فإن هاتين القضيتين اقل تعقيدا، وفي حال التوصل الى حل لهما، ستحل مسألة المستوطنات بالتبعية، ويمكن لإسرائيل عندها أن تواصل الاستيطان في المناطق المفترض انها ستكون جزءاً من دولة اسرائيل فيما يفترض ان تمتنع عن القيام بذلك في مناطق الدولة الفلسطينية.
لكن الإشكالية تكمن في أن نتنياهو يصر على بحث الترتيبات الأمنية قبل الحدود، بمعنى انه في ضوء ما ينتزعه من تنازلات جديدة يحدد موقفه من القضية الثانية، فضلاً عن أن نتائج المفاوضات حول القضية الأولى لها أثرها المباشر على تحديد معالم الثانية، وخصوصاً في ما يتعلق بالمعابر وغور الأردن.
المفاوضات، (حتى بالنسبة إلى الذين يتبنونها خياراً) كما هي عليه، لا تجدي نفعاً. خطوة محمود عباس في الامم المتحدة، التي ثبت بإقراره انها تهدف الى دفع المفاوضات قدما، ليست الا محاولة لنفخ الروح في مسيرة ميتة منذ زمن، بالاساليب الاستجدائية نفسها. وهكذا يتأكد المرة تلو الاخرى أنه ما دام الاسرائيلي يدرك أن فشل المفاوضات مع السلطة الفلسطينية لن يؤدي الى تدفيعه اثماناً مؤلمة، فلا يتوقع احد انه سيقدم اي «تنازلات» حيال اي قضية، مهما صغرت او كبرت.