كثّفت الولايات المتحدة حربها على تنظيم القاعدة في اليمن منذ نهاية سنة 2009، وحولت قسطاً اساسياً من جهدها القتالي والاستخباري من باكستان والصومال الى اليمن لعدة اسباب. الأول هو أن التنظيم، بإيعاز من بن لادن، وحّد فرعيه في اليمن والسعودية مطلع سنة 2009 تحت اسم «القاعدة في جزيرة العرب»، وأخذ يعمل على تأهيل اليمن ليصبح مركزاً رئيسياً لمقاتليه العائدين من باكستان وأفغانستان والعراق والسعودية، بالاستفادة من تراخي القبضة الامنية للدولة اليمنية التي راحت تعاني الأزمات الداخلية منذ أن بدأت مسيرة الحراك الجنوبي الاستقلالي سنة 2007.
والسبب الثاني هو أن التنظيم الجديد اخذ يعد العدة لفتح جبهة جديدة ضد المصالح الغربية انطلاقاً من اليمن، وشرع في تخطيط وتنفيذ جملة من العمليات النوعية بالاعتماد على متطوعين اجانب، مثل المحاولة الفاشلة لتفجير طائرة امستردام ديترويت الاميركية في نهاية سنة 2009، التي قام بها النيجيري عمر الفاروق. والسبب الثالث هو ان بن لادن نفسه كان قد بدأ الإعداد لنقل مقر اقامته من باكستان الى اليمن، وشرع فعلياً في العمل على تحقيق الحلم الذي راوده منذ نهاية الجهاد الافغاني في العودة بالقاعدة من الشتات، فاليمن بلاد اجداده، وهي «ارض المدد»، بالاضافة الى ان فرصة تفكك الدولة اليمنية تعد ثمينة لجهة تأمين ملجأ آمن في ظل تكثيف الحرب الاميركية على انصاره في باكستان والعراق والصومال.
هناك سبب اضافي كان يدفع بن لادن للعودة الى اليمن، وهو اعتماده على مجموعة من القادة اليمنيين الفاعلين في التنظيم، ومن بين هؤلاء مرافقه السابق ناصر الوحيشي، الذي زكّاه اميراً لـ«القاعدة في جزيرة العرب»، والامام انور العولقي، وقاسم الريمي القائد العسكري، الذي برز بعد اول عملية رسمية للقاعدة في تشرين الأول 2000 ضد المدمرة الاميركية «يو اس اس كول» التي راح ضحيتها 17بحاراً اميركياً وجُرح 39 آخرون.
ورغم ان العولقي من الرموز والقادة الفاعلين في القاعدة، ومع ان اسمه شاع في العامين الاخيرين بوصفه مجاهداً بارعاً على الشبكة الالكترونية، لم تكن الاوساط ترشحه لدور كبير، ولم يكن يوحي داخل اليمن بأنه يشكل مصدر خطر كبير على المصالح الغربية. وبقي تحديد درجة خطورته امراً ملتبساً حتى تجاوز الرئيس الأميركي باراك أوباما الدستور في نهاية السنة الماضية وأصدر أمراً بقتله. وجرت عدة محاولات لاغتياله في جنوب اليمن، وتحديداً في منطقة شبوة، التي يتوارى فيها منذ أن تركزت عليه الأنظار في نهاية سنة 2009.
يحمل أنور العولقي الجنسية الأميركية بسبب ولادته سنة 1972 في الولايات المتحدة من أب، هو وزير سابق للزراعة في اليمن، يدعى ناصر العولقي، نظراً لأنه ينحدر من قبيلة «العوالق»، كبرى قبائل محافظة شبوة في جنوب اليمن، وأشدها بأساً. وتعلم العولقي أصول الدين في عدن، ليصبح لاحقاً إماماً بارزاً في العديد من المساجد الأميركية، ويرتبط بمساجد «سان دييغو» في ولاية كاليفورنيا، وفي «فولز تشوتش» في ولاية فرجينيا، ليعود فجأة إلى اليمن في 2002، بعدما صار محاضراً بارزاً بفضل الكثير من الدروس والخطب التحريضية التي انتشرت قبل 11 سبتمبر، ليس باللغة العربية فقط، بل بالإنكليزية أيضاً. وذاع صيته بعيداً حتى صارت بعض مواعظه ومشاركاته الفقهية منشورة ومتوافرة على «يوتيوب»، إلى الصرعات الجديدة في عالم الموسيقى و«الراب» مثل «سنووب دوغ» و«الزومبيز»، وهي في غالبها تتحدث عن معاني القرآن ودروسه، حيث برع خصوصاً في الجمع في رسائله، بين المعرفة بالتقاليد الدينية والإحاطة بمقتضيات الإعلام الجديد. ولهذا استحقّ لقب «بن لادن الإنترنت».
ورغم نفيه أي صلة بالتنظيم، تشير اهتمامات العولقي الفكرية إلى صلة ما بـ«القاعدة»، ذلك أنه شرح كتاب الشيخ السعودي يوسف العييري (ثوابت على درب الجهاد) بالإنكليزية، وهذا هو الأمير السابق لـ«تنظيم القاعدة» في السعودية، الذي قتل على أيدي قوات الأمن السعودية في 2003. وقد ألقى العولقي محاضرات عن الكتاب في الولايات المتحدة.
ذاع صيته وكبرت حلقته من الشبان اليمنيين في الولايات المتحدة، بدءاً من عام 2000، حيث بات إماماً في أحد مساجد واشنطن. وتقول المعلومات إن من بين الذين واظبوا على حضور دروسه اثنين من منفذي هجمات 11 سبتمبر (خالد المحضار، ونواف الحازمي)، اختطفا طائرة «أميركان إيرلاينز»، التي اصطدمت ببرج البنتاغون.
بقي العولقي في الظل حتى أجرى معه في 16 تشرين الثاني 2009 صحافي يمني حديثاً لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، بعد المجزرة التي قام بها الرائد الأميركي من أصل فلسطيني نضال حسن في الخامس من تشرين الثاني 2009، في قاعدة «فورت هود» الأميركية في تكساس.
وصف العولقي نضال حسن في حديثه للصحيفة الأميركية بـ«البطل»، وكاد ينسب إلى نفسه تخطيط العملية، عندما اعترف بأن حسن كان يتردد إليه في مسجده في فرجينيا، وأنه تراسل معه السنة الماضية (2008) عبر البريد الإلكتروني، وقال إنه كان يثق به، و«أصبح مسلماً ورعاً ما بين 2001 و2002». وذكر في حديثه إلى الصحيفة، الذي مر من دون أن يلفت الانتباه إليه كثيراً، أن نضال حسن مسلم جدي ومطّلع على الشريعة، وكثيراً ما كان يستند إلى «ما ورد في الشريعة من أجل أدلة تجيز محاربة ما تقوم به أميركا». وكشف أنه تلقى رسالة من نضال حسن في 17 كانون الأول عام 2008، ورد فيها: «أتحدث معك في مواضيع لا أتطرق إليها أبداً مع أي شخص آخر».
برر العولقي الهجوم الذي قام به حسن على زملائه من العسكريين، الذين صرع منهم 13، بأنه، حسب رأيه، شكل من أشكال الجهاد، لأن أميركا هي التي جاءت تقاتل في بلاد الإسلام. وقال، في الحديث، إن «قتال الجيش الأميركي واجب إسلامي، وإن السبيل الوحيدة أمام المسلم لتبرير الخدمة في الجيش الأميركي في نظر الإسلام، هي العزم على المشي على خطى نضال حسن».
فتح هذا الحديث الأعين الأميركية على العولقي، لكن المتابعة الرسمية لنشاطه جاءت بعد محاولة تفجير طائرة الركاب الأميركية بين أمستردام وديترويت في ليلة عيد الميلاد سنة 2009. واعترف منفذ العملية، الشاب النيجيري عمر الفاروق، بأنه تتلمذ على يدي العولقي، وأنه قام بالمحاولة بإيعاز منه، وحاولت الاستخبارات الأميركية اغتيال العولقي في الليلة نفسها، بقصف اجتماع في شبوة، لكنها أخطأته. ومنذ ذلك الحين يعد هدفاً أميركياً ثميناً، وخصصت جائزة مالية مقدارها مليون دولار. وكان من المتوقع أن الرقم سيتضاعف عدة مرات لأنه سيصبح العدو الأول للولايات المتحدة في حال أعلنه التنظيم خليفة لبن لادن في ايار الماضي، لكن الاختيار وقع على انور الظواهري.
عدم تسمية العولقي خليفة لبن لادن لم تخفف من اهميته في نظر وحسابات الاجهزة الاميركية التي حاولت اغتياله عدة مرات في الاشهر الخمسة الاخيرة، بعدما صعّد التنظيم من عملياته في جنوب اليمن، وفي كل مرة كانت الاستخبارات الاميركية تنصب كميناً للعولقي كان يفلت منه بفضل تحركه في محيط قبلي آمن في محافظة شبوة الجنوبية، وبمجرد خروجه منه بات مكشوفاً، وتم رصده واغتياله امس بصاروخ من الجو على طريق عودته من الجوف على الحدود مع السعودية.



الوحيشي والريمي


ناصر عبد الكريم عبد الله الوحيشي الملقب بـ«أبو بصير» أمير «تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» الحالي، هو السكرتير السابق لبن لادن، والنجاح الأبرز لهذا القيادي انعكس في قدرته على توحيد تنظيم القاعدة في اليمن والسعودية في كانون الأول 2009، تحت إمارته باسم جديد هو «قاعدة الجهاد في جزيرة العرب»، ونيابة كل من السعودي سعيد الشهري وصديقه اليمني قاسم الريمي. أما قاسم يحيى مهدي الريمي، فهو من أبرز المطلوبين للأجهزة الأمنية في اليمن والسعودية. لذا، جرت عدة محاولات لاغتياله خلال السنوات الأخيرة، وأعلنت السلطات اليمنية مقتله أكثر من مرة، وكان آخرها في آذار من السنة الماضية. وهناك من يعدّه العقل المدبر الأكثر خطورة من الوحيشي والشهري. وللدلالة على خطره، وضعته الأجهزة الأميركية على قائمة المطلوبين.