«القمر كنّو بلدنا ناسي»
الحرّ لا يطاق الآن. كأنني في غرفة سونا يكاد ينفد منها الأوكسجين. لا منفذ للهواء هنا إلا شباك يتيم مطلّ على زاروب، يطلّ على أسلاك كهرباء، مطلّة على قطعة سماء.
هناك على أرضية الغرفة، تمددت أنا الأخرى قرب قطي أقاسمه برودة منبعثة من بلاط أرضية الغرفة، وانتظرت، ثم انتظرت حتى فقدت الأمل بعودة التيار الكهربائي مجدداً، بعد انقطاعه المتكرر والمعتاد. قررت التسلق الى سريري، علّ النوم يتسلل الى عينيّ رأفة بحالي. ولكن عبثاً، فالحر شديد وخانق. كيف سأتمكن من النوم الآن؟ يا ربّي كيف سأتمكن من الاستيقاظ في الصباح باكراً للعمل، وأنا أصلاً أحب النوم، وحتى عندما أنام لساعات كافية، أحتاج إلى فيل لينتشلني من فراشي؟
أوووف.
أحاول تقطيع بعض الوقت، أمد يدي لمداعبة القط الذي لا يزال في مكانه يفترش الأرض، لكنه سرعان ما يضيق ذرعاً بمداعبتي، فيغيّر مكانه بعيداً عن متناول يدي العابثة. المسكين، أيّ جحيم يعانيه الآن. تخيّلوا لو كنتم/نّ مكانه، كتلة من اللحم مغلّفة بسجادة من الوبر! لا أعرف كم مضى من الوقت، لكن يبدو أنني غفوت لبرهة. أفتح عينيّ باستجابة عفوية لقمر معلّق بالسماء يرسل انبعاثات ضوئه بحياء كأنه يحاول طبع قبلة قبل النوم على خدي. يبدو القمر استثنائي النقاء الليلة، ما كنت أعرف أن شكل القمر قد يختلف مع اختلاف الوضعية التي نكون فيها عند النظر إليه. لم أعهده بهذا الجمال من قبل. لطالما كنت أتخيل وجود وجوه بشرية عليه أو حتى أشكال غريبة تأخذ هيئة إنسان أو حيوان. وأجزم أنني رأيت خريطة فلسطين محفورة على قرصه مرات كثيرة. ولكن الآن لا أرى في القمر إلا أنت. هذا ما كان ينقصني، سبب إضافي ليؤرقني! لا أعرف لماذا استحضرتك في تلك اللحظات، أتذكّر حين أسمعتني أغنية مروان عبادو «القمر كنّو بلدنا ناسي»، لا أعرف لماذا وكيف لم ترقني كثيراً وقتها. لعلّ السبب اعتقادي بأن القمر لا يمكن أن يكون بهذه القسوة. رغم أنني خلال عودتي إلى فلسطين أدركت كم أن هذه الأغنية جميلة وأن كلماتها صادقة. فالسماء هناك شديدة الظلمة كأنها في حداد أزلي على غيابه. أو ربّما السبب ببساطة، هو أنه في وقتها ما كان لشيء أو أحد يضاهيك جمالاً.
ناديا خير ـــــ مخيم برج البراجنة

■ ■ ■

أحلام يقظة

للأسباب الواهية التي لا تُقنع أحداً سوايَ، ولأسبابٍ أخرى لا أعرفها، وربما لا أريد معرفتها، أمشي ولا أشعر بالمسافة ولا بالتعب مُطلقاً. لا وجوه، لا ظلال، فقط أرى خطين لا ينتهيان. أمشي لأراني حرة من نفسي، أملأ غزة برائحتي، ثم أعود الى البيت لأنام طويلاً. الكهرباء لم تعد تعني لي الكثير، فتوفر التيار الكهربائي لا غيابه هو الاستثنائي، وهو ما يُثير دهشتي، وربما غضبي! نعم غضبي، لأنه يبدو كوهمٍ إضافي صغير سُرعان ما يتبدد. لذلك أنام في كل الأحوال، وعقلي يُخزِّن كل ما مررت به، يُراودني ابن بطوطة وابن سينا ورحلاتهما، حينما سمعتُ بهما لأول مرة، كنتُ أفكر كيف يُضيعان أعمارهما في التجوال؟ ماذا يستفيدان؟ القليل من الكتب؟ والآن شوارعُ غزة تُخبرني بصمت الإجابة لطالما تحيرتُ كثيراً: البلادُ هي كل ما يبقى من الذاكرة، فأسكنيني هناك بكِ، ماذا أكون إن نسيتِني يوماً!
وأبكي كلما مرّ هذا الحوار بيننا في المنام، فأُسرع لأسجل آخر شوارع مررتُ بها، أكتب عن الوجوه، عن الناس، عن الأشجار، عن الذين خذلوني، عن كل من أحبّني..
حتى أضحت ذاكرتي ممرات ضيقة أشبه بدهاليز لتعذيب المساجين، سألني: ما الذي يدفعك إلى كتابة يومياتك يوماً بيوم بهذا الإصرار؟ فأجبته: ضيَّعت سنوات دون كتابة، فعرفت أنه لا شيء يبقى سوى الذاكرة، ولسببٍ مُبهم لا أعرف مصدره، أشعر بأنني يوماً سأُغادرُ هذه البلاد، فأكتب كل شيء عنها، وعني! أكتب لأنني لا أريدُ أن أخذلها، فأنساها يوماً، لو رحلت، كالذين رحلوا!..
فنجان قهوة بارد، والقليل من الهواء يتسرب بين الفينة والأخرى، فيذهب سريعاً، مُخلفاً أكواماً من الرطوبة تسبحُ في الغرفة، وأخبار الراديو تقرع رأسي كطبلٍ، أُركِّزُ خمس دقائق على الأكثر، ثمّ تبدأ تلك الأخبار بالدخول إلى منامي حافية، وكبطلة قصة أُحاول أن أصنع فرقاً وتغييراً، فأفتح بوابة المدينة، أجمع الناس لخطابٍ أُطالبهم باختيار رئيس، بلبلة وطبل، وأصبح لنا رئيس جديد مُنتخب، برنامجه الانتخابي بدأ بالعمل.. الكهرباء حق شرعي وأساسي, ولن تقطع، والمعابر سوف تفتح. ألا ترون الشمس.. الكل ينظرُ فوق.. نعم نراها، لم يعد هناك يهود..!»
لا لم أنم، هي أحلام يقظة يا صديقتي!
أماني شنينو ـــــ غزة