تسارعت التطورات والتهديدات في أعقاب الكشف عن تفاصيل مجزرة «النخيب» التي ارتكبتها مجموعة مسلحة مجهولة يوم الاثنين الماضي بحق ركاب حافلة كانت تقل مسافرين من أهالي النجف، بينهم بعض من أهالي الفلوجة، إلى سوريا، وأدّت إلى مقتل 22 شخصاً من أصل أكثر من ثلاثين. «النخيب» بلدة صحراوية صغيرة كانت تابعة لمحافظة كربلاء. لكنّ نظام صدام حسين اقتطعها وألحقها بمحافظة أخرى هي جارتها الأنبار، ولا تزال البلدة مثار خلاف ومطالبات بين الطرفين. وقد لاحظ المراقبون أن مجزرة «النخيب» اختلفت عن مجازر سابقة وقعت في المنطقة في العديد من السمات: أولاً، لم يسارع تنظيم «القاعدة» إلى تبنّيها كما اعتاد أن يفعل. ثانياً، أنّ النساء والأطفال من ركاب الحافلة لم يُمَسّوا بسوء، وهذا أمر لم يكن مسلّحو «القاعدة» يفعلونه أيضاً، بل كانوا يجهزون على جميع الأحياء. وبعدما جرى تشييع ضحايا المجزرة في كربلاء، أطلقت السلطات الأمنية المحلية وقيادة قوات «الصحوة» في محافظة الأنبار ما وُصف بأنه «حملة أمنية واسعة» للبحث عن الجناة. مراقبون في المحافظة أشاروا إلى أنّ قطع المال الذي كانت بغداد تقدمه عبر «الصحوات» إلى مصادر المعلومات الاستخبارية، هو ما دفع أطرافاً متضررة من هذا القطع إلى ارتكاب، أو الدفع إلى ارتكاب، تلك المجزرة، بما يجعل مجموعات مسلحة داخل حركة «الصحوة» أقرب إلى مجموعات من المرتزقة الذين لا يترددون في فعل أي شيء إذا قُطع عنهم المال من طرف من يقدمون إليه خدمة حماية المسافرين على الطريق الدولي.
رئيس «الصحوة» وأحد شيوخ عشائر الدليم، أحمد أبو ريشة، رصد خمسين مليون دينار عراقي من ماله جائزةً لمن يدلي بأي معلومات تؤدّي إلى القبض على الجناة، إضافة إلى خروج تصريحات معزّية عديدة من الأنبار. غير أن الساعات والأيام مرّت من دون أن يعثر للجناة على أثر. ومساء الخميس، أعلنت السلطات في محافظة كربلاء اعتقال الجناة بطريقة احتفالية لا تخلو من الانفعال، بحيث جابت سيارات الشرطة الشوارع وهي «تزفّ البشرى» إلى الأهالي الذين سارع البعض منهم إلى إطلاق الرصاص في الهواء ابتهاجاً. وسرعان ما أعلن شيخ عشائر الدليم في الأنبار، الشيخ علي حاتم السليمان، الذي كان حليفاً لرئيس الحكومة نوري المالكي في إطار ائتلاف «دولة القانون» في الانتخابات الأخيرة ثم انقلب عليه حين فشل في الفوز، أن قوة يقودها رئيس مجلس محافظة النجف، محمد الموسوي، دهمت قضاء الرطبة واعتقلت ثمانية مواطنين ونقلتهم إلى كربلاء. وطالب الشيخ بإعادة من وصفهم بـ«المختطفين» إلى الأنبار أو إلى بغداد، وإلا فإنه «سيقطع يد حزب الدعوة» الإسلامية (حزب المالكي). الشيخ السليمان لم ينفِ أنّ المعتقلين عليهم «إشارات أمنية» ومطلوبون إلى القضاء، وأنّ بعضهم متورّط في عمليات سلب وأحدهم يحمل صفة «مفتي» في تنظيم «القاعدة»، ولكنه رفض أن يُنقلوا إلى كربلاء بهذه الطريقة. وتثير هذه المعطيات، التي أدلى بها الشيخ السليمان، الكثير من الأسئلة من نوع: هل الأولوية والأهمية الأمنية الإنسانية هي لاعتقال جناة متّهمين بارتكاب مجزرة ضخمة كهذه، أم للاحتجاج على طريقة اعتقالهم ونقلهم إلى محافظة مجاورة؟ ومنذ متى كان الشيخ السليمان يعرف أن هؤلاء عليهم «إشارات أمنية» ومطلوبون للقضاء وأن أحدهم «مفتي» في «القاعدة»؟ وكيف يُفسَّر التشنّج الواضح في تهديدات الشيخ وتناقض المعلومات التي أدلى بها؟
وفي السياق، أمهل الشيخ أحمد أبو ريشة محافظة كربلاء 24 ساعة لإعادة المعتقلين، وإلا فإنه سيقطع الطريق الدولي الرابط بين العراق وسوريا. محافظ الأنبار المدعوم من قبل «حركة الصحوة» ظهر على شاشة إحدى الفضائيات ليؤيّد رواية الشيخين السليمان وأبو ريشة، وليحمّل سلطات كربلاء مسؤولية «تخريب الجهد الأمني لاعتقال الجناة الحقيقيين»، الذي كان يقوم به هو وسلطاته. من جانبها، قدّمت سلطات محافظة كربلاء روايتها الخاصة التي تختلف كثيراً عن رواية جارتها، فقالت إنّ رئيس مجلسها، ومعه وفد كبير، زار مضارب عشائر عراقية في قضاء الرطبة، قرب موقع المجزرة، وذلك بعلم محافظ الأنبار لتقصّي الحقائق، وهو الأمر الذي أكده الأخير، لكنّه رفض تحوّل الموضوع من تقصّ للحقائق إلى عملية دهم واعتقالات. وتضيف رواية الكربلائيين أنّ قوة من الجيش العراقي هي التي اعتقلت ثمانية أشخاص ضُبطوا في خيمة في الصحراء، بناءً على معلومات استخبارية، وعُثر معهم على أحزمة ناسفة، وكان بينهم شخص سوداني الجنسية. وكانت هذه السلطات قد أعلنت أن انتحارياً سوداني الجنسية اعترض طريق رئيس مجلس المحافظة وحاول تفجير نفسه، لكنّ قوة أمنية تمكّنت من اعتقاله. وقد رأى مراقبون للشأن الأمني أنّ حكاية الانتحاري السوداني ضعيفة وهشّة ولا يمكن تصديقها بسهولة، وقد يكون الرجل قد اعتُقل فعلاً ضمن مجموعة الثمانية في الخيمة الصحراوية. وبعد ساعات قليلة على عودة رئيس مجلس كربلاء ومرافقيه، أعلنت السلطات أن بعض المعتقلين اعترفوا بتورّطهم في ارتكاب المجزرة، وأنّ بعض الناجين تعرّفوا إليهم فعلاً. ورأى مراقبون أنّ السرعة التي أعلن فيها هذا التطور تثير الاستغراب والشك.
ومع تصاعد التهديدات والتوتر الطائفي، لوحظ غياب تام للسلطات المركزية في بغداد. فلم يدل رئيس الوزراء أو مكتبه أو أي طرف في السلطات الاتحادية التنفيذية بأي بيان أو توضيحات بشأن ما حدث، الأمر الذي أثار علامات استفهام تتعلق بحقيقة ما حدث، وبعلاقة المركز بتفاصيله، وبمستوى وطبيعة العلاقة التي تربطه بالسلطات المحلية في المحافظات. وقد فسّرَ البعض هذا الغياب بالرغبة في عدم التصعيد والانحياز إلى طرف ضد آخر، والبعض الآخر ردّه إلى التراخي والبطء اللذين طبعا طريقة تعاطي المالكي مع التطورات. وتأخّر تدخُّل المالكي وحكومته حتى يوم أمس، حين أعلن رسمياً نقل المعتقلين الثمانية إلى بغداد، بعدما اتصل بنائبه صالح المطلك وأبلغه أن «الإرهاب لا يستثني أحداً»، وأن «المغدورين هم من أبناء محافظتي الأنبار وكربلاء معاً»، داعياً الطرفين إلى «وقف الحملات الإعلامية والتراشقات الخطابية وتبادل الاتهامات».
غير أنّ الكثيرين اتفقوا على أنّ تأخُّر المركز بهذه الطريقة هو ما سمح بهذا الحضور القوي لأطراف وقوى غير رسمية وتقليدية كالعشائر والميليشيات والأحزاب في شأن هو من اختصاص الدولة حصراً، وأنّ تكراره قد يفاقم الأمور وصولاً إلى انزلاق هذه القوى في صراعات دموية غير محسوبة العواقب. من ناحية أخرى، طرح بعض المراقبين تساؤلات مهمة منها: ألا تحمل الأفعال التي قام بها رئيس محافظة كربلاء ومرافقوه في محافظة أخرى طابعاً استفزازياً وطائفياً صريحاً؟ فحتى إذا صدقنا أن قوة من أحد ألوية الفرقة الموجودة في الأنبار هي التي اعتقلت المتهمين، فالسؤال هو لماذا نقلوا إلى كربلاء وليس إلى بغداد؟ من يحكم العراق فعلاً، الحكومة أم العشائر والميليشيات؟