«معاً إلى المستقبل». ملأت صور رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان القاهرة تحت هذا الشعار. ليست زيارة عادية إذاً، بل زيارة مبشِّر بعصر جديد، وطلب عاطفي بالمشاركة في مستقبل بلد تقف عنده منحنيات خطيرة. الطلب ليس عاطفياً فحسب بالطبع، بما أنه بصحبة أردوغان ٢٠٠ رجل أعمال، وبرنامج عمل يرفع حجم التجارة بين القاهرة وأنقرة إلى أرقام تتجاوز الرقم الحالي المقدَّر بـ ٣،١ مليارات دولار، وإنشاء «مجلس استراتيجي عالي المستوى بين مصر وتركيا». الخطابات العاطفية في زيارة السيد التركي متشابكة إلى درجة يصعب تفكيكها.
الرجل يتحدث عن زيارة «عائلية»، وهو آتٍ إلى مصر بإحساس بطولة يترفّع عنها بعدما سحب سفير بلاده من تل أبيب، بينما «موقعة» السفارة الإسرائيلية في القاهرة تثير شجوناً وآلاماً، وتعيد إلى الذاكرة سنوات خذلان طويلة، قدّم فيها الرئيس المخلوع حسني مبارك ضعفه على أنه حكمة.
يصل أردوغان إلى القاهرة. تستقبله ورود من جماهير تشحن صورته كبطل مخلّص ومنقذ للعروبة، بدلاً من الوعي بأنه سياسي يبحث لبلاده عن موقع في منصّة قيادة المنطقة. تبدو وكالة «أنباء الشرق الأوسط» الحكومية سعيدة بإعلانها أن آلافاً اصطفّوا أمام صالة كبار الزوار في المطار مردّدين هتافات الترحيب به والتأييد له. أردوغان يبحث في القاهرة عن دور جديد، يستعيد أمجاد أسلافه العثمانيين، وهذا ما لا يراه أصحاب خطابات تناديه لأن يكون «فارس العرب»، وهتافات تضعه في صورة صلاح الدين الأيوبي، بينما هو الأقرب إلى لاعب ماهر في الصراع الإقليمي.
أردوغان في مصر ضيف عزيز على «الإخوان المسلمين»، الذين رفعوا لافتة كبيرة كتب عليها «أردوغان أردوغان تحية كبيرة من الإخوان»، بجانب لافتات أخرى: «تركيا ومصر معاً يد واحدة من أجل المستقبل» و«أردوغان البطل».
أردوغان في زيارة تذكّر البعض بزيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون عام ١٩٧٤، حين غيّرت مصر تحالفاتها الاستراتيجية بعد حرب تشرين 1973، وغادرت المعسكر الشرقي إلى معسكر الغرب. كلتاهما الآن، مصر وتركيا، في معسكر قريب في التحالف مع أميركا، لكن تركيا تسير حثيثاً خارج المظلات الأميركية، وفي الوقت نفسه لا تريد العمل بالمشاعر الثقيلة للمنبوذ، مثلما يحدث مع إيران، ولا يوقف أحلامها في اللحاق بالكتلة الأوروبية، نصفها العصيّ، المتعالي على ضم رمز الإمبراطورية الإسلامية القديمة إلى «المجال الأوروبي» المتخم بمشاكل المهاجرين الهاربين من ورثة الإمبراطورية ذاتها.
تركيا أكثر خفة من إيران في إقامة جسورها مع العالم العربي، وخاصة مصر، ليس فقط بسبب غياب عنصر العقيدة، ولا ميراث الخوف من تصدير ثورة الإمام الخميني، لكن أيضاً لأن تركيا تتحرك بعرباتها التجارية وتضع عليها أعلام الحرية.
تركيا موديل إذاً. نموذج قريب وأليف، ومن المجال الجغرافي والسياسي ذاته. ذاكرته الاستعمارية بعدت قليلاً، وخطابه الذكي ضد إسرائيل يستقطب المرعوبين من الوقوف مجدداً على خطوط النار. تركيا موديل هناك دعاة إلى تقليده، أو السير على طريقه. موديل يدخل في مجال الاستقطاب المصري، ويتحوّل إلى فيل كل فريق سياسي يصفه مثلما يريد، بداية من الجنرالات ومريديهم الباحثين عن طريقة يضع بها الجنرال إصبعه في القرص الفعال للدولة الجديدة، وصولاً إلى الإخوان المسلمين، الذين يروّجون في كل مقارّهم للتجربة التركية، وحتى بعض أهل الوسط من طلاب المعادلة التركية.
الراديكاليون استقبلوا أردوغان بذاكرة ضرب الأكراد، وحذّروا من جعله بطلاً في هذه اللحظة. أردوغان في ضباب القاهرة أربك الجميع، بمن فيهم حاملو الورود، الذين صدمهم ترويجه للعلمانية حين قال في لقاء تلفزيوني: نحن نعرّف العلمانية بأنها «وجود الدولة على مسافة متساوية من كل الأديان». وتابع «لا نقول عن شخص إنه علماني، لكن نقول دولة علمانية، فأنا مسلم أعيش في دولة علمانية، وهذا مسيحي يعيش في دولة علمانية». أردوغان أكد أنه «في تركيا 99 في المئة من السكان مسلمون، وهناك مسيحيون ويهود وأقليات، لكن الدولة في تعاملها معهم تقف عند نفس النقطة، وهذا ما يقره الإسلام ويؤكده التاريخ الإسلامي». ربط أردوغان هذه التصورات بالوضع في القاهرة: «أدرك أن مصر ستنتقل إلى المرحلة الديموقراطية، لكن على واضع الدستور أن يعلم أنه من الضروري أن تقف الدولة على مسافة واحدة من كل الأديان، حتى يجد المجتمع كله الأمان الذي يسعى إليه».
أردوغان قال إنّ الإسلاميين سيعرفون معنى العلمانية عندما يسمعون كلامه في القاهرة. أما وزير خارجيته، أحمد داوود أوغلو، مهندس الجسور التركية إلى القاهرة، الساعية إلى منطقة جديدة في العالم، فهو تربية ثقافة مصرية، ومتخرّج من مدارسها الجامعية، وخبير في خريطتها السياسية، يلتقط احتياج إدارة المرحلة الانتقالية إلى حليف إقليمي بعد ثبات الحليف الدولي. مصر تبحث عن نفسها في أحلاف الإقليم، هذا ما قد يشحن من أجله مراكز فعّالة رسمية وشعبية لتبدو مصر قادمة على العصر التركي، أو تقف على بوابات عصر غير معلوم الملامح.
أردوغان خلق ضباباً يغلق الصراع السياسي الداخلي، وينتقل إلى السياسة الخارجية ببساطة غير معهودة؛ فالمجتمع يريد صناعة سياسة خارجية على مزاج ثورته، حرة وخفيفة وتلعب بقوة في الإقليم. نمر أو أسد جديد في العالم، هذا حلم ثورة خبطت بقوتها على جدار السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وتمرّدت على جغرافيتها المحاطة بأسوار ٣٠ عاماً في القاهرة.
القاهرة تتنفس، لكن بصعوبة، والهوى التركي أليف، لكن خلف الغمام أكمة عديدة.