دمشق | في «المصارعة السورية» الحاليّة، يبدو أن التناقض الذي يولّده استخدام أساليب اللاعنف في مواجهة أعمال العنف، يضع الأطراف المتنازعة، أي السلطة صاحبة التفوق في مجال السلاح، وحركة الاحتجاج السلمية، في وضع سياسي غير متوازن يُضعف من قوّة العنف، ويزيد من قوة المحتجّين. وأمام الحصيلة الكبيرة في أعداد القتلى، يُطرَح كلام كثير عن «تسليح الثورة» بين رافض بالمطلق ومؤيّد بالكامل أو بتحفُّظ. ورغم بعض الحالات العسكرية، التي يصرّ منظّمو التحركات الاحتجاجية على وصفها بالـ«شواذ»، لا تزال السمة الغالبة للحراك السوري هي السلمية والكفاح اللاعنفي، رغم المحاولات الحثيثة لتغيير مسارها. وعن احتمالات «عسكرة» الانتفاضة الشعبية على شكل حروب أهلية أو تدخل أجنبي، كان لـ «الأخبار» استطلاع رأي سريع مع شباب «تنسيقيات الثورة» وناشطين غير منظّمين، حيث لا يزال التمسّك بسلمية الحراك غالباً على التيار الداعي إلى مواجهة العنف بالعنف. يعترف عبدو، الناشط في إحدى «تنسيقيات الثورة»، وهو مهندس في الثلاثينيات من عمره، بوجود دعوات إلى التسلح، وخاصة في المناطق الريفية المنعزلة، «لكنها فردية على الغالب»، كاشفاً أنه وزملاءه يحاولون ضبط ردود الفعل وخفض الضحايا إلى حدها الأدنى، بما أننا نؤمن بأن نهج اللاعنف هو الأقل تكلفة على صعيد الضحايا في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، وفي الوقت نفسه الأكثر أماناً لضمان انتقال سليم إلى دولة مدنية لا تكون الغلبة فيها للقوة وللخارجين عن القانون». كذلك فإنه يقرّ بسماع منظمي التحركات الميدانية بعض التململ من الشارع بسبب الإصرار على عدم حمل السلاح. ويتابع عبدو: «ندرك تماماً وجود خطط هدفها عسكرة الثورة، لكن هذا يجعل نضالنا أكثر عمقاً وإدراكاً للمخاطر، ورغبةً في إنجاز ما كان مستحيلاً التفكير فيه قبل أشهر قليلة». ويؤكد أن «شعاراتنا الأساسية هي لا للعنف وللطائفية وللتدخل الخارجي، ونحن ندرك أن طريقنا مفروش بالتضحيات والصعوبات، فهناك فعل قتل واختطاف وتعذيب يومي ممنهج للناشطين، وعقوبات جماعية للناس، لكننا ندرك حجم المسؤولية من جهة، وانعدام التناسب بين حجم قوتنا وقوة السلطة من جهة أخرى».
رأي عبدو لا يوافقه عليه كل من نجيب، مدرّس لغة، ومحمد، موظف في مصرف خاص. كلاهما «غير مسيّس»، ويتشاركان فكرة أن ما يحدث الآن من سلمية الثورة هو دليل على ضعف الثورة وعدم تمكنها من الإمساك بأدواتها الحاسمة، وهي السلاح. يجزم نجيب بأنه «لا حلّ غير السلاح، هكذا نقلل عدد الضحايا بين المدنيين عبر منطق حرب العصابات، وفي الوقت نفسه نستطيع توجيه ضربات موجعة إلى السلطة ممثلةً بالأجهزة الأمنية والشبيحة». ويتابع محمد فكرة صديقه بأنه «إذا لم تشعر السلطة بوجود قوة حقيقية تردعها، فسيظل النزف اليومي للضحايا العزَّل، والخسارة قائمة بكل الحالات، وبما أنهم يدّعون أننا عصابات مسلحة، فلتكن كذلك». يشكك نجيب ومحمد في إمكان تغيير الوضع عبر سياسة اللاعنف رغم احتمال وقوع حرب أهلية بسبب رفع السلاح في مجتمع يغوص حتى التخمة في تفاصيل الأقليات والقوميات والإثنيات. ويتساءل محمد: «ما هو الحل؟ انتظار دول العالم حتى تقرر عدم أخلاقية ما يحدث في سوريا، أم انتظار روسيا حتى تعرف ما هو العدد الحقيقي لضحايا الإصلاح وإعطاء الفرص للنظام؟».
بدوره، فإنّ حسن، وهو «شيوعي غير رسمي»، يعترف بوجود من يريد «خطف الحالة السورية إلى أماكن تتحقق فيها أجندات خارجية وداخلية متحالفة معها». وبناءً عليه، يشدد على أنه «ليس من مصلحة الشارع رفع السلاح؛ لأن ذلك سيؤدي إلى تحييد مطالبه الأساسية». وفيما يعرب عن مخاوفه من تحوّل الضحايا إلى «أرقام في نشرات الأخبار»، لا يتردّد حسن في التبشير بسياسة الإصرار على اللاعنف؛ لأنّ «سياسة عض الأصابع تجعل من التغيير إمكاناً وواقعاً قريب الحدوث، في حين أن الحرب الأهلية أو التدخل الخارجي العسكري هما الكارثة بعينها، لأنهما سيكونان إجهاضاً لكل ما حدث وانتكاسة سندفع ثمنها غالياً». ويشير الشيوعي الأربعيني إلى أن «هناك من داخل السلطة ومن بعض القوى الغريبة على المعارضة، اتجاهات خطيرة متحالفة لدفع المنطقة إلى أتون حرب قد تصبح إقليمية وربما دولية، وهي تدفع الشارع إلى التسلح من خلال قنوات مشبوهة». وعن هذا الموضوع، يتخوّف من الانقسامات الطائفية والمؤامرات التي تحاك ضد «الوحدة الوطنية لتقطيع سوريا، لذلك علينا إرجاع الحراك السوري إلى السكة المصرية السلمية، لا الليبية. ويكون شعارنا اليوم: «لا للتدخل الخارجي، لا للحل الأمني، لا للفساد»».
في المقابل، يلفت الناشط الحقوقي، مازن، إلى أن الحراك السوري «يستند إلى موروث حضاري ثقافي عميق امتداده يقوم على: {لئن بسطتَ إلي يدكَ لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلك}». ويذكّر بأن «الإرهاب في الانتفاضات الشعبية كان دائماً وأبداً خياراً معزولاً لمجموعات تدعمها السلطات الأمنية حول العالم ولها برامج وأهداف وغايات، وهي تمثل أذرعاً ضاربة لها، منذ التدخل السوفياتي في أفغانستان وحتى الآن. لكنه لم ولن يكون خياراً شعبياً في أي مكان في العالم، وهو رديف للتخلف ودعوة إلى الانحطاط تعاكس تماماً الهدف الذي أثارته الثورات العربية من تحرر ورفض للتسلط وللعقل الأمني». رغم ذلك، فهو يحذّر من أن أي ردّ بالسلاح على عنف السلطة «لن يكون مستغرباً، فهو من باب الدفاع عن النفس كحق طبيعي ووضعي وشرعي، ولكنه ليس أسلوباً ولا غاية بحد ذاته، فالسلطة هي المتفوقة في مجال السلاح، وهذا هو ميدان محبّب إليها، وآثاره ستكون باهظة على الدولة والمجتمع، ونحن واعون ولن ننجرّ لهذا الخيار».
أما عن مصادر السلاح المنتشر خارج أيدي الجيش والأجهزة الأمنية، فإن «التنسيقيات» تؤكد أنّ الجيش والقوى الأمنية قامت عدة مرات بترك عتاد عسكري في مناطق آهلة بالمدنيين بعدما اقتحمتها، وخاصة في بعض المناطق الحساسة المختلطة مذهبياً «لغرض في نفس يعقوب». كذلك فإنهم يجزمون بأن السلاح قد وُزِّع بالفعل على اللجان الشعبية، المؤلفة من أعضاء في حزب البعث الحاكم، ومعهم من يوصفون بالشبيحة، وخضعوا لدورات عسكرية مكثفة. إضافة إلى أن التهريب قائم بالتواطؤ ما بين ضباط فاسدين وتجار سلاح، وهو ما يضع السلاح في «السوق السوداء». إلا أن سعر البندقية الروسية لا يزال يناهز الـ1300 دولار، في حين أن متوسط الدخل الشهري لا يتجاوز 250 دولاراً، وهو ما يبقي السلاح محصوراً بيد أقلية.