ما قبل اقتحام المصريّين السفارة الإسرائيلية في القاهرة سيكون مختلفاً عما بعده. رسالة المتظاهرين كانت واضحة: إسرائيل غير مرحَّب بها في بلادنا. أما رسالة حكام القاهرة، بعسكرييها وساستها، فكانت أوضح: مستعدون لقتلكم من أجل عيون دولة الاحتلاللم تنتهِ تداعيات الهبّة الشعبية الكبيرة للشعب المصري ضدّ إسرائيل، ممثلةً بسفارتها في القاهرة، عند ساعات الفجر من يوم السبت، ولن تنتهي على الأرجح قريباً، إذ إن ما حصل في مصر ليل الجمعة ـــــ السبت مؤشّر نوعي لأمرين: قفز «ثورة 25 يناير» خطوة كبيرة إلى الأمام، مع إدخال بند رفض استمرار العلاقة مع دولة الاحتلال في أجندتها من جهة، وجنوح السلطة الحاكمة في القاهرة نحو إعادة القبضة الأمنية بحجة أحداث السفارة، وهي القبضة التي قامت «ثورة النيل» ضدّها أساساً في كانون الثاني وشباط الماضيين. صحيح أن حصيلة ضحايا المتظاهرين المصريين الذي تمكنوا من اقتحام السفارة الإسرائيلية ليل الجمعة ـــــ السبت كانت كبيرة، مع مقتل 4 مواطنين وجرح 1049، إلا أنّ التداعيات السياسية الداخلية وفي ما يتعلق بالعلاقة مع تل أبيب كانت وستكون أكبر. بجميع الأحوال، ستظهر الساعات والأيام القليلة المقبلة ما إذا كانت «ثورة السفارة» سيستخدمها عسكر مصر لإرجاع عقارب الساعة إلى ما قبل «ثورة يناير»، مع إعادة العمل بجزء كبير من قانون الطوارئ، أم أن المصريين سيتمكنون من ممارسة المزيد من الضغط على حكومتهم وجيشهم لإعادة النظر بعلاقة القاهرة بتل أبيب.
وكان كل شيء قد بدأ مساء الجمعة، حين حاول نحو 4 آلاف متظاهر مصري هدم الجدار الجديد الذي بني على طول نحو 100 متر وبارتفاع ثلاثة أمتار فوق كوبري الجامعة المجاور للسفارة الإسرائيلية، في مسيرة أطلقوا عليها «مسيرة الشواكيش» (المطارق). وقد تمكن المتظاهرون بالفعل من هدم الجدار الخرساني الذي سبق للسلطات المصرية أن شيّدته لحماية السفارة من أي انتقام محتمل لاستشهاد الجنود المصريين الستة الذين قتلتهم غارة إسرائيلية على الحدود خلال شهر آب الماضي. وأمام الغضب الشعبي الكبير والاستنفار الأمني، اشتدت المواجهات العنيفة طوال الليل بعدما تمكن بعض المتظاهرين من اقتحام مقر السفارة التي تشغل مكاتبها الأدوار الثلاثة الأخيرة من المبنى المؤلف من 20 طبقة، حيث شُوهدت الوثائق «السرية» التي عُثر عليها داخل مكاتب غرفة مخصصة للأرشيف الدبلوماسي تتطاير في الهواء، وهو ما أعقبته هجمة شنتها الشرطة العسكرية على منازل عدد من النشطاء، حيث ألقي القبض على ما يقرب من 92 شخصاً، قالت الأجهزة الأمنية إنهم شاركوا فى أحداث «الشغب» التي شهدتها السفارة الإسرائيلية ومديرية أمن الجيزة، وأحيل عدد منهم إلى النيابة العسكرية التي بدأت التحقيق معهم فوراً، على وقع تعرّض عدد من سيارات الشرطة للحرق. وكانت ردة فعل السلطات المصرية سريعة، إذ قرّرت «تطبيق كل بنود قانون الطوارئ» الساري منذ أكثر من ثلاثين عاماً «للحفاظ على الأمن ولمواجهة أي خروج عن القانون»، وفق بيان صدر في ختام اجتماع مشترك للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم و«مجموعة الأزمات في الحكومة». كما جزم وزير الإعلام المصري أسامة حسن هيكل بأن حكومته «ستحاكم أولئك الذين حرّضوا أو شاركوا في أعمال العنف التي استهدفت السفارة أمام محكمة أمن الدولة». وقال هيكل، بعد الاجتماع، «شهدت مصر أمس يوماً عصيباً أصاب جموع المصريين بالألم والقلق وبات واضحاً أن تصرفات البعض أصبحت تهدد الثورة المصرية وأدت إلى المساس بهيبة الدولة في الداخل والخارج»، محذراً من أنه «ينبغي التصرف مع الظرف الاستثنائي بإجراءات قانونية حاسمة». وأشار المشاركون في الاجتماع المذكور إلى أن «ما حدث خروج واضح على القانون ولا يمكن بأي حال من الأحوال وصف من قاموا به بأنهم شرفاء، وما حدث أثّر على صورة مصر بالمجتمع الدولي». كما نص البيان على «قيام أجهزة الأمن من الآن فصاعداً باتخاذ ما يلزم للحفاظ على الأمن، بما في ذلك حقها الشرعي في الدفاع عن النفس حفاظاً على أمن الوطن».
وكانت وزارة الداخلية المصرية قد أعلنت حالة الاستنفار بين قواتها وقررت إلغاء جميع عطلات أفراد الشرطة للسيطرة على الأمن. وعلى ضوء الأنباء عن تقديم رئيس الحكومة عصام شرف استقالته على خلفية التظاهرات، رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة الاستقالة، وفق التلفزيون المصري الحكومي. في غضون ذلك، كان وزير العدل محمد عبد العزيز الجندي مشغولاً باتهام «أنظمة محيطة بمصر» بالتخطيط والتنفيذ لمخطط ترجم بأحداث ليل الجمعة ـــــ السبت. وأضاف الجندي إن «هناك أنظمة في دول محيطة بمصر تخشى أن يتكرر ما حدث في مصر لها». كلام مشابه صدر عن سلفيي مصر، ممثلين بأكبر تنظيم لهم، «الدعوة السلفية»، التي انتقدت اقتحام السفارة الإسرائيلية، واصفةً ذلك بأنه «تصرفات غير مدروسة».
أما الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية عمرو رشدي، فقد نفى صحة ما تردَّد عن تقديم عدد من السفارات الأجنبية في القاهرة طلبات للوزارة لاستقدام حراسات خاصة بها من بلادها، وهي السفارات التي باتت تحميها وحدات من القوات الخاصة المعنية بمكافحة الإرهاب والشَّغَب، وفق اعتراف مصدر رفيع المستوى في وزارة الداخلية المصرية. وكاد مقر السفارة الأميركية في القاهرة يشهد سيناريو مشابهاً لما حصل مع السفارة الإسرائيلية، أول من أمس أيضاً، عندما احتشد أمامه المئات من المصريين، مطالبين بطرد السفيرة الأميركية وقطع العلاقات مع الولايات المتحدة، قبل أن ترغمهم حشود أمنية على الابتعاد عن المكان.
وكان الإعلام أحد ضحايا سلوك الأمن المصري، وخصوصاً فضائية «الجزيرة مباشر» التي تعرّض مكتبها لاقتحام رجال أمن مدنيين قطعوا بثها وألقوا القبض على مهندس الصوت فيها وصادروا «آلة البث» بحجة «عدم نيل القناة تراخيص قانونية». بالإضافة إلى ذلك، أُرغمت صحافية تعمل في قسم الفيديو في مكتب وكالة «فرانس برس» في القاهرة السبت على تسليم شريط فيديو يتضمن تصريحات جمعتها من متظاهرين أمام سفارة إسرائيل عقب الهجوم عليها.
(الأخبار، أ ف ب، رويترز، يو بي آي)