الدمازين | حلة خضراء تكسو طول الطريق المؤدي الى ولاية النيل الازرق المنكوبة، التي تعدّ إحدى أغنى ولايات السودان بثرواتها الطبيعية والمعادن، والأشجار والحشائش والأراضي الزراعية المترامية الأطراف والغابات على الشريط النيلي المحاذي للولاية. لكن اليوم، تبدو مدينة «الدمازين»، حاضرة الولاية من بوابتها الشمالية، كأنها مدينة للأشباح بعدما باتت خالية بالكامل من السكان بسبب المعارك العنيفة التي دارت رحاها يوم الخميس الماضي، بين منتسبي الجيش الشعبي المدعوم من حكومة دولة جنوب السودان والقوات المسلحة السودانية، حتى بات لا يُسمع فيها سوى أصوات محركات السيارات العسكرية.
هدأت المعارك، فبدأت الحياة تدبّ رويداً رويداً في أوصال عاصمة الولاية، فيما يخيّم قلق من تجدد الاشتباكات في أي لحظة، على غرار ما حصل أول من أمس، حين سمع إطلاق نار كثيف استمر بضع دقائق، أتبع بانقطاع إمدادات الكهرباء، قبل أن يتبيّن أنه حادث عرضي نتيجة إطلاق جندي نيران سلاحه عن غير قصد خارج الدمازين، ليعمد على أثرها جنود آخرون داخل المدينة إلى إطلاق نيران أسلحتهم رداً على مصدر النيران.
ويرجع القيادي فى الحركة الشعبية في شمال السودان، مستشار نائب رئيس الحركة، قمر دلمان، في حديث مع «الأخبار»، اندلاع الاشتباكات إلى إصرار حزب المؤتمر الوطني الحاكم «على السعي إلى تطبيق نظام أحادي قائم على العروبة والإسلام، وإسكات الإثنيات والديانات الأخرى، وهذا ما طرحه المؤتمر الوطني فى ملامح الجمهورية الثانية التي يريد منها التخلص من المنطقتين: جنوب كردفان والنيل الأزرق».
وبعدما اتهم دلمان «الحزب الحاكم بمحاولة نزع سلاح الحركة الشعبية في الشمال بقوة السلاح»، لفت إلى وجود سيناريوين متوقّعين خلال الفترة المقبلة؛ الأول توحّد «قوى الهامش»، بما فيها حركات دارفور المتمردة، لإسقاط نظام الخرطوم، وهيكلة الدولة السودانية على أسس جديدة وعقد مؤتمر دستوري تشارك فيه كافة القوى السياسية السودانية المعارضة.
أما السيناريو الثاني، فيتمثل في الذهاب إلى «المفاوضات ومطالبة المنطقتين بحق تقرير المصير على غرار ما حدث فى جنوب السودان»، مشدداً على أنه «لو جرى تطبيق اتفاق أديس أبابا الإطاري بين الحزب الحاكم والحركة الشعبية، الموقّع مع مساعد الرئيس السوداني نافع علي نافع في وقت قريب، والذي وضع ترتيبات أمنية لمعالجة الاوضاع في منطقتي النيل الازرق وجنوب كردفان، لما آلت الأوضاع الى ما وصلت إليه حالياً» .
إلّا أن أحد أعيان مدينة الدمازين، ويدعى العمدة كباشي عبد المجيد (75 عاماً)، وهو رئيس المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم في محلية التضامن في ولاية النيل الازرق، وصف الهجوم بأنه غادر على الولاية «من المتمرد مالك عقار»، في إشارة إلى الوالي السابق للولاية مالك عقار الذي أصدر الرئيس السوداني عمر البشير قبل أيام مرسوماً قضى بإقالته من منصبه وتعيين حاكم عسكري في مكانه.
ويقول عبد المجيد الذي لفت إلى أنه عمدة عمودية منطقة أولو، إحدى المناطق التى شهدت القتال، إن «الهجوم مدبر له منذ وقت كاف لاجتياح الولاية والسيطرة عليها وضمّها عبر القوة إلى دولة الجنوب». ومضى يقول «إن حكومة الخرطوم لو استجابت لتقاريرنا التي رفعناها في السابق عن أداء المتمرد مالك عقار، لما وصلت الأحوال إلى ما وصلت إليه الآن». ويرى كباشي «أن مالك عقار مورست عليه ضغوط من دولة الجنوب والتمرد في جنوب كردفان لتنفيذ تمرد مماثل في النيل الازرق، للتحرك لإسقاط نظام الخرطوم».
ولا يمكن فصل مساعي الحركة الشعبية أو الحزب الحاكم لإحكام السيطرة على الولاية عن أهمية النيل الأزرق السياسية والجغرافية. ويوضح المحلل السياسي محمد عبد العزيز، أحد أبناء المنطقة، أن المنطقة تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي محاذ لدولة إثيوبيا التي تمثّل عمقاً استراتيجياً للدولتين. ويضيف «موقعها كقاعدة عسكرية يجعلها ذات أهمية بالنسبة إلى الخرطوم وإلى الحركة الشعبية، حيث تحدّها من الشمال الشرقي ولاية سنار، ومن الجنوب الشرقي دولة إثيوبيا في حدود ممتدة، وتتاخم ولاية أعالي النيل التي انفصلت عن السودان وآلت إلى دولة جنوب السودان». كذلك تعدّ ولاية النيل الأزرق التي تتخلل أراضيها سلاسل جبلية كثيرة وثراء بيئي وتنوّع مناخي، من أغنى المناطق السودانية. وتقع في المنطقة المنتجة للذهب أرض بني شنقول التاريخية، وتضم أكبر الخزانات المنتجة للكهرباء في السودان (خزان الروصيرص)، الذي يقع على نهر النيل الأزرق، المنحدر من الهضبة الإثيوبية، والذي يمتاز بضيق المجرى وسرعة الانحدار.
ونظراً إلى أهمية المنطقة وموقعها، يرى مراقبون أن خطوة الرئيس السوداني عمر البشير بإعلان حالة الطوارئ وإقالة الحاكم المنتخب غير موفّقة من ناحية قانونية، ومن شأنها زيادة التوتر والمعارك. كذلك عاب المراقبون على البشير عدم إعلانه حال الطوارئ بصورة مماثلة في ولاية جنوب كردفان التي تشهد توتراً أيضاً.
ويرى الصحافي عبد الباسط إدريس، الموجود في مدينة الدمازين، في حديث مع «الأخبار»، أن منطقة النيل الأزرق الآن مهيّأة أكثر من أي وقت سابق لاستقبال حاكم مدني ينهي حالة الطوارئ المفروضة ويطبّع الحياة المدنية، ويمهد الطريق لحوار سياسي مع المتمردين، للوصول إلى تسوية سياسية تنهي الأزمة القائمة الآن، ولتصبح البديل الموضوعي للعمل المسلح. وناشد البشير اتخاذ تلك الإجراءات بسرعة لحقن الدماء. أما المتمردون، فطالبهم إدريس بعدم المطالبة بالاتفاق الذي وقّع معهم أخيراً في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، والاستعاضة عنه باتفاقية السلام الشامل الموقّعة معهم منذ عام 2005 في مدينة نيفاشا الكينية، وبما يسمح بإيقاف موجة النزوح المستمرة.
ولم تنجح تأكيدات الحاكم الجديد للولاية، اللواء يحيى محمد خير، أن الجيش السوداني بسط سيطرته بالكامل على حاضرة الولاية مدينة الدمازين وأنه يطارد المتمردين حيثما كانوا، في إقناع النازحين بالعودة إلى منازلهم، وخصوصاً بعدما أدت الجولة الأولى من المعارك إلى مقتل 17 مدنياً، فضلاً عن أعداد كبيرة في صفوف الطرفين من العسكريين، إلى جانب أسر 300 جندي من الحركة الشعبية ودمار جزئي في البنية التحتية لمدينة الدمازين.
ويبدي المواطن خليفة بادي كباشي، البالغ من العمر 72 عاماً، وهو أحد سكان مدينة الدمازين، خشيته من تدهور الوضع الصحي للنازحين، بمن فيهم أسرته الصغيره. وتبدو عند تخوم المدينة، في منطقتي ودالماحي وهارون، معاناة النازحين من سوء الأوضاع المعيشية واضحة للعيان، وسط مناشدات للحكومة بضرورة توفير الأمن لمنطقة الكرمك التي يسيطر عليها المتمردون، لضمان بثّ الطمأنينة وعودة الأهالي إلى ديارهم.
وقال كباشي لـ«الأخبار» «تقيم أسرتي حالياً في منطقة هارون التي تبعد كيلومترين شمالي المدينة، بعد رحلة استمرت ليوم كامل سيراً على الأقدام، فراراً من القصف المتواصل على منزلنا في حي الزهور». ويواصل سرد قصة معاناته هو وأسرته قائلاً «تركت أسرتي هناك في مأمن وعدت أنا لتفقّد ممتلكاتنا التي تركناها على عجل»، محمّلاً طرفي النزاع مسؤولية تدهور الوضع الأمني في المدينة، حيث لم يعد يوجد فيها سوى عدد من الشباب الذين يحرسون المنازل التي تركت بكامل أغراضها، بعد اندلاع القتال فجأة.
وأكد أحد الشباب، ويدعى الطيب عبد الله، الذي كان يناوب في الحراسة، أنه مع عدد من شباب المدينة وبمعاونة الجيش السوداني وقوات الأمن يعملون على حراسة منازل الأهالي لحمايتها من حالات النهب المتوقعة. بدوره، يؤكد المواطن محمد بابكر، وهو يقيم بالدمازين، لـ«الأخبار»، أنه أخرج كامل أفراد أسرته إلى ولاية سنار المجاورة خوفاً من الهجوم العسكري للمتمردين، قبل أن يعود ليتولى «حراسة عدد من المنازل التي تخصّ أسرتنا وعدداً من الأسر المجاورة». وربط محمد قرار عودة أسرته بانتهاء المعارك العسكرية وحسم التمرد.
وفيما يؤكد بابكر أنهم لا يعانون من نقص في الغذاء نظراً إلى قدراتهم المالية الوفيرة، دعا إلى الاهتمام بالفقراء من النازحين، مشيراً إلى أن «هناك من يقيم الآن في العراء ومعهم أطفال صغار ورضّع، ونساء يحتاجون إلى تقديم المساعدات الإنسانية عاجلاً».



موجة جديدة من اللجوء


أعلنت المفوضية العليا للأمم المتحدة للاجئين لجوء أكثر من 20 ألف سوداني إلى إثيوبيا، منذ يوم الجمعة الماضي، هرباً من المعارك الدائرة في ولاية النيل الأزرق، فيما نزح عشرات الآلاف غيرهم داخل الولاية.
وأقيمت ثلاثة مخيمات في الجانب الإثيوبي لاستقبال القادمين الجدد الذين يتوقع أن يزداد عددهم في الأيام المقبلة. إلا أن المفوضية سبق أن دعت إلى إيجاد حل فوري للأزمة وبأي ثمن، للحؤول دون أزمة إنسانية جديدة، وخصوصاً أن المفوضية تتكفّل بالفعل بعشرات الآلاف من الصوماليين الهاربين من المجاعة في بلادهم، والذين لجأوا إلى جنوب إثيوبيا في منطقة دولو ادو.
(رويترز)