دمشق | يستطيع المتجوّل في الشوارع السورية أن يسمع بوضوح «ملاحظات فلسفية» ينطق بها المتحمّسون للحركة الاحتجاجية الشعبية، بينها عبارات من نوع أنّ «ثورتنا هي ثورة على أنفسنا أولاً. هي انتفاضة على آبائنا الذين صمتوا عقوداً، وعلى أنفسنا لأننا سكتنا طويلاً... إنها أكثر من أن تكون حالة رفض لاستمرار النظام البعثي الحالي في الحكم. هي انتفاضة على الخضوع والخوف والاستسلام والتسليم بإرادة الفئة الحاكمة في مختلف أوجه الحياة، من المدرسة إلى الجامعة والمصنع والمنزل والمتجر والشارع». هكذا، وبما أنّ الحركة الشعبية هي قبل كل شيء حالة اجتماعية بالمعنى الواسع، وليست معارضة سياسية بالمعنى الضيق، فإنها ولّدت ظواهر اجتماعية راحت تفرض نفسها في كل منزل وكل حي وداخل كل عائلة. من هنا عمّت البلد، انقسامات وعداوات ومقاطعات بين أفراد البيت الواحد والحي والعائلة، تقابلها علاقات جديدة تنشأ بين المتشابهين من الطرفين، ممن درجت تسميتهم بـ «مندسّين» و«منحبّكجية» (سخرية مشتقّة من حملة «منحبك» المؤيدة للرئيس بشار الأسد). ظواهر صادمة للوهلة الأولى، بما أن أبطالها هم أحياناً أزواج وأشقاء وآباء وأبناء وأصدقاء وأقرباء، لكنها صدمة لا تلبث أن تزول مبرراتها عندما يتذكر المرء بأنّه أمام الأسئلة الحاسمة، لا مكان لجواب إلا «أنا مع» أو «أنا ضد».
مروى، صيدلانية خمسينية. إثر تبرّعها بكمية ضخمة من المواد الإسعافية لمصلحة حملة إغاثة لأهالي حماه المحاصرين، خاضت مشادة كلامية مع زوجها، الذي يدير إحدى المؤسسات الحكومية. الرجل معترض بشراسة على إغاثة «العصابات المسلحة»، ومصرّ على ضرورة قطع كل الإمدادات عنهم حتى «يفطسوا». تتطور المشادة الكلامية الى إهانات وتجريح شخصيين بعيدين عن الثورة والموالاة والمعارضة، ومن ثم يصل الأمر بالزوج إلى... الطلاق. تعلّق مروى على قرارها بالانفصال عن زوجها بالتأكيد على أنه كان «أكثر خطوة شجاعة اتخذتها في حياتي، لم أعد أستطيع العيش مع من لا يجرؤ على تسمية الأمور بأسمائها». وترى أن الموقف السلبي جداً لزوجها تجاه الحراك الشعبي كان «الشعرة التي قصمت ظهر البعير، أريد حريتي بالمعنى الشخصي، بقدر ما أريدها بالمعنى الاجتماعي، لم أعد أطيق التسلط، فهو يظن أنني سكرتيرة لديه».
منذر، محاسب في إحدى الدوائر الحكومية نهاراً، و«شبّيح» في أوقات التظاهرات. وبعد عودته من إحدى التحركات المعارِضة، دخل في مشادة كلامية مع ابنته الكبرى الرافضة لأفعاله. تتطور الحكاية حين تصطف كامل العائلة ضده، فتكفل بمطاردة العائلة بالحجارة والشتائم حتى بوّابة الحديقة وهو يصرخ «طالق.. طالق.. طالقين كلكم»، ما دفع بعائلة الزوجة المعارضة الى رفع دعوى قضائية ضده.
شريف، موظف، وفي الوقت نفسه أمين فرقة حزبية في «البعث». قرأ الرجل في أحد الاجتماعات قائمة بأسماء المعارضين المحتملين في منطقتهم السكنية، متضمنةً اسم ابن خاله. انتقل الخبر عن طريق أحد الأقارب، ما اضطر العائلة الى عقد اجتماع مصغَّر ضم بعض المتنفذين والشيوخ، لكنهم عجزوا عن تطويق الأزمة التي تطورت الى عراك بالأيدي ودخلت القطيعة حيز التنفيذ بين أفراد العائلتين ولا تزال سارية المفعول.
أرتين، صاحب محل تصوير، وقد استحقّ لقب «مندس حقيقي»، بما أنه شارك في جميع التظاهرات التي نُظمت في المناطق المجاورة لسكنه، بعدما تعلّم الصلاة على الطريقة الاسلامية ليتمكّن من «الاندساس» في المساجد والخروج في التظاهرات بعد الصلاة، ضارباً بذلك عرض الحائط بكل المسلمات عن العقل الطائفي الأقلّوي. أجهزة الأمن حققت مراراً معه، لكن الطامة الكبرى كانت بمقاطعة أقاربه وزبائنه له كأنه عدوّ، ما اضطره إلى إغلاق محلّه الشهر الماضي، إثر توقف عن العمل بدأ يظهر كأنه سيطول. يعيش أرتين حالياً من مدّخرات أيام ما قبل الحركة الاحتجاجية، ويعزّي نفسه بالتأكيد على أنه «لا بد لنا من دولة لجميع أبنائها، لم يعد ينفع طمر الرأس في الرمال، وأعتقد أن ناسي سيغيرون رأيهم قريباً»، جازماً بأن مقاطعتهم له لم تعد تزعجه «بعد اكتشافي بعداً جديداً من الانتماء إلى سوريا».
طلال وشقيقه عماد، متنافران تاريخياً في كل شيء. أخيراً، هدّد عماد بأنه لن يدافع عن شقيقه أبداً و«مش بس هيك، إذا لزمت راح سلموا أنا، الله لا يقيمو بيستاهل، عم قلك العين ما بتقاوم مخرز». إلا أنّ الواقعة قد وقعت بالفعل، وطلال، الفنان التشكيلي، صار في «ذمة التاريخ» بفضل ظاهرة الخطف أو الاختفاء القسري للناشطين المعارضين. اليوم، يبكي عماد شقيقه ويقول: «لو مات أحسنلو من هالشحططة، قلتلوا كثير بس ما فهم، شو هالمعارضة هاي متل الخواريف بتطلع مظاهرة وبتنقتل وما بتردّ، والله والله...» ثم تختنق الكلمات بدموعه.
محمد مدرِّس في الثلاثينيات من عمره، وهو قيادي في إحدى «تنسيقيات الثورة» حيث يسكن، لكنه ينتمي الى بلدة أخرى. تصله معلومات عن «المخبرين» من بلدته ليكتشف اسم أخته الكبيرة ـــــ عاطلة من العمل، متخرّجة من إدارة الأعمال ـــــ ضمن قائمة المخبرين. وبتوجُّس، يرحل عبر الكثير من الحواجز المطلوب عليها، متنكراً وملتفاً عليها، ليتأكد مما كان قد اعتقده سابقاً وقرأه أخيراً. وحين واجه أخته، اعترفت بحماسة وبحضور زوجها، مؤكدة إيمانها بما تفعله، ومباركة والدها وأمها، وضرورة رحيله قبل أن تستدعي الأمن لأنه «خطر على المجتمع، بما يفعله من ترويع وتهديد لأمن المواطنين، ورغبتها الحارة له في أن يسلم نفسه»، وفق ما نقله محمد الحزين.
رياض، سائق تاكسي طيب القلب، اعتقد أنه بوضع صورة الرئيس بشار الأسد على النافذة الخلفية لسيارة الأجرة «قد يتجنب بلاء شرطة السير عنه»، لأنه لا يحمل شهادة سوق عمومية، لكن ما كسبه رياض بالصورة، خسره باليد الأخرى، إذ لاحظ أن أعداداً متزايدة من الناس ترفض الصعود معه بعد أن تنتبه الى الزجاج الخلفي، لكنه في الوقت نفسه يخاف من إزالتها خشية «دسّة من أحد العواينية (المخبرين)».