تعز | يُقدّم النظام اليمني نفسه باستمرار على أنه «شريك مهم» لواشنطن في مكافحة الإرهاب، ويحرص على الاحتفاظ بميزة كهذه في خطاباته الإعلامية، فيما يظهر على الأرض كـ«مروّع حصري» لا يضاهيه أحد. وخلال الأشهر الثلاثة الفائتة، لم يكتف نظام علي عبد الله صالح، الذي يواجه ثورة شعبية منذ شباط الماضي، بمحاورة الشعب اليمني بـ«فوهات الدبابات والرشاشات»، بل تجاوزها إلى ما هو أبعد في إخافة الناس وترويعهم، من دون أن ينجح في ثنيهم عن الاستمرار في احتجاجاتهم.
وفي مدينة تعز، مهد الثورة ضد صالح، استخدم النظام كل أوراقه القمعية، وخاض في مواجهة المدينة الأكثر مدنية مختلف معارك الترويع. بدأها بـ«خراطيم المياه» التي كانت تخرج في الشهور الأولى من عمر الثورة لقمع المحتجين، قبل أن ينتقل إلى توجيه فوهات مدافعه ودباباته نحو الأحياء السكنية المزدحمة، ليتوّجها بتنفيذ أعمال نهب وسلب للمؤسسات الخاصة، وإطلاق نار مستمر في الليل، بغرض ترويع المدنيين.
وخلال الشهور الفائتة، أيقن النظام أن أساليبه القمعية لم تنجح في كسر شوكة المحتجين، على الرغم ممّا أضافه إلى ممارساته من خنق للمدينة بحصار تام طيلة أسابيع، ومنع عربات القمامة من نقل المخلفات من الأحياء السكنية، والسماح بطوفان شبكة المجاري والصرف الصحي في الشوارع كنوع من العقاب الجماعي. ولذلك لجأ منذ منتصف رمضان المنصرم إلى تصعيد الوضع الأمني، والترويج لمرحلة حرب أهلية، وذلك بالتزامن مع تجهيز نحو عشرة آلاف مسلح، مهمتهم تفجير الوضع في مدينة شهد لها الجميع بسلمية ثورتها.
ومنذ ذلك الحين شهدت المدينة انفلاتاً أمنياً غير مسبوق، حيث عمدت قوات النظام إلى ترك المدينة مفتوحة أمام أصحاب السوابق من الموالين للنظام، للقيام بأعمال نهب وسلب للمنازل والسيارات، وتعرّض بنك أهلي وسط المدينة للسطو من قبل عصابة مسلحة، اكتُشف أنها من طرف الموالين للنظام، وسط اعتقاد واسع النطاق بأن قيادات النظام في المدينة تهدف من خلال قيامها بتلك الأعمال، إلى بثّ المزيد من الكراهية في نفوس الأهالي للثورة والمطالبين بها، بتصويرهم أنهم مجرد لصوص وقطاع طرق.
كذلك حوّل النظام عدداً من المرافق الحكومية، مثل مكتب التربية في شارع جمال عبد الناصر وسط المدينة، ومستشفى الثورة العام المبني على نفقة جمهورية الصين، ومدرسة الشعب ومعها عدد من المدارس، إلى ثكنات عسكرية، فيها عشرات القناصة من أفراد الحرس الجمهوري بلباس مدني.
وبالتزامن مع رفض القوات الموالية لنجل الرئيس اليمني سحب الدبابات والمدافع من داخل مبنى مستشفى الثورة الحكومي، إلى جانب زيادة النقاط العسكرية التي استُحدثت في شوارع المدينة، يتواصل القصف على قرى الستين، وهو شارع في المنفذ الشمالي للمدينة، بعدما حوّلته قوات النظام إلى معسكر متكامل، ما جعل الناس في المدينة يعيشون كرهائن، فيما لخّص أحد سكان المدينة الوضع لـ«الأخبار» قائلاً «كان القصف بشعاً، نمنا بعين واحدة».
كذلك لجأت القوات الموالية للنظام إلى تصدير الإرهاب النفسي الى قلوب سكان المدينة، حيث تعمّدت خلال فترات الليل إطلاق الأعيرة النارية العشوائية بكثافة في الهواء، كان مصدر أغلبها إدارة أمن المحافظة والشرطة العسكرية القريبة من منزل الرئيس صالح في المدينة، كذلك استُخدمت القنابل الصوتية، كواحدة من وسائل النظام لإرهاب الناس.
وبمجرد إعلان اللجنة التنظيمية تصعيد العمل الثوري، قصف الحرس الجمهوري، قبل ثلاثة أيام، ساحة الحرية وعدداً من أحياء المدينة بغرض إرهاب المواطنين، وثنيهم عن المشاركة في مسيرات الحسم، وحلقت الطائرات الحربية في سماء المدينة صباحاً، بغرض بثّ الذعر في نفوس المواطنين وإيهامهم أن الحرب قد انفجرت.
أما الأكثر تعبيراً عن خشية نظام صالح من مدينة تعز التي خرجت في 11 شباط من أجل إسقاط النظام، وخرج النظام الآن بجميع قواته ليقود ثورة مضادة فيها، فتجسّد في لجوء وسائل إعلام النظام إلى التأكيد أن «تعز لن تكون بنغازي اليمن». ممارسات يؤكد سكان المدينة المؤيّدون للثورة أنها لن تفلح في جر المدينة إلى هاوية العنف التي يخطط لها النظام، وأن الثورة السلمية التي خرجت من أجل إسقاط النظام لن تتوقف إلا بتحقيق هدفها.
وتطرّق عضو مجلس شباب الثورة المستقل في تعز، عمار الكناني، في حديث مع «الأخبار»، إلى ممارسات مؤيّدي صالح، لافتاً إلى أن «النظام يشهر آخر أوراقه في الوقت الحالي، بلجوئه إلى تحشيد المسلحين (البلطجية) ضد سكان المدينة». وبعدما أشار إلى أن النظام «استخدم كل أساليبه الوقحة من أجل تركيع شباب الثورة في تعز وأخفق»، أوضح أنه «حالياً أمام مهمتين، طمس الصورة السلمية لثورة الشباب بجرها إلى مربع العنف الدامي الذي لا يجيد سواه، وتشويه الوجه المدني المشرق الذي تشتهر به تعز».
ويشدد عضو مجلس شباب الثورة على أن كافة المحتجين في المدينة باتوا يدركون كافة ألاعيب أجهزة النظام، التي يصفها بـ«البائسة»، ولن يتركوا لهم المجال لإمرارها، على الرغم من أن إحدى نتائج سياسة العقاب التي اتّبعها النظام بحق المدينة وتحويلها إلى ثكنة عسكرية بعد إحراق ساحة الحرية أواخر أيار الفائت، كانت تأليف ما يسمّى «مناصري الثورة المسلحين» لحماية المحتجين والمعتصمين من بطش القوات الموالية للنظام، يتزعمهم الشيخ حمود سعيد المخلافي، أحد أعيان المحافظة.
ويبرر أحمد الشرعبي، وهو طالب في كلية الطب، في حديثه إلى «الأخبار»، لجوءه إلى حمل السلاح قائلاً: «كنت من المعتصمين في ساحة التغيير بصنعاء من دون سلاح، وعند الاعتداء على المتظاهرات من قبل قوات الحرس الجمهوري، تركت صنعاء وعدت إلى مدينتي لأقوم بواجبي في حماية أخواتي اللاتي يتعرضن لانتهاكات لا يمكن القبول بها». ويضيف «النظام أجبرنا على حمل السلاح. نحن نحمي الساحة فقط ولا نهاجم المواقع العسكرية، بل نتعرض لهجوم مستمر، وخصوصاً في الليل. المهاجمون هم مسلحون موالون للنظام». وإن كان أحمد يرى أن السلاح الذي حمله كان لزاماً وأسهم في «إيقاف بركة الدماء التي كانت قد بدأت تسيل في شارع جمال ووادي القاضي بعد المحرقة»، إلا أن تأليف الجناح المسلح المساند للثورة لم يرق كثيرين رأوا أنه أعطى مبرراً لشن قوات النظام المزيد من الهجمات الشرسة على تعز.
وتدافع سعاد القدسي، وهي ناشطة حقوقية ومدنية في تعز، لـ«الأخبار»، عن وجهة نظرها، مشيرةً إلى أن «شباب الثورة لا يحملون أي أسلحة، قلوبهم مليئة بالغضب فقط». وتضيف «وعندما يخرجون في التظاهرات، يجوبون شوارع تعز بهتافاتهم المزلزلة منفردين، يمزقون صور صالح من على أعمدة الشوارع التي تسلّقوها بصعوبة دون خوف من جنود نظام صالح وكتائبه الذين أطلقوا الرصاص الحي».
وتستعيد القدسي مشاهداتها من مسيرة الحسم الثوري الأحد الفائت، مؤكدةً أن «الشباب كانوا منفردين. أجزم وأقسم أنني لم أر أي أحد ممّا يقال عنهم مناصرو الثورة المسلحون الذين يحمون الثوار من نظام صالح وجيشه ورصاصاته وأسلحته الثقيلة التي تطقطق فوق رؤوس الشباب». كذلك تصف القدسي المسلحين المدافعين عن شباب الثورة بـ«الأشباح»، لافتةً إلى أنه «لا أحد يراهم برفقة الثوار في مسيراتهم واعتصاماتهم». وتضيف «تلك الأشباح كانت مبرراً لغزو ساحات الحرية وحرقها ثم تطويق تعز، بشوارعها وأزقتها بجنود وأسلحة».
وفي ظل استمرار توافد التعزيزات إلى تعز والمناوشات التي تدور بين الحين والآخر بين المسلحين المؤيدين للثورة والقوات الموالية لصالح، كان الفشل مصير عملية التهدئة، وسط تحميل موالي النظام المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع.
ويشير عبد الله حسن خالد، عضو لجنة التهدئة التي ألّفها نائب رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي، في حديث مع «الأخبار»، إلى «وجود شخصيات قبلية وأمنية موالية للنظام تعمل على الدوام من أجل تعطيل اتفاق التهدئة الأخير» الذي تم التوصل إليه الشهر الماضي. ويضيف رئيس فرع أحزاب اللقاء المشترك المعارض في المدينة أن الانفلات الأمني الذي تشهده مدينة تعز يروق تلك الشخصيات، وأنها تعمل على تغذية الخروق واستهداف النقاط الأمنية، رغم التزام الجهات الموالية للثورة بنص الاتفاقية. أما محافظ محافظة تعز، حمود الصوفي، فأكد أن المدينة «لن تقبل الاستجابة لمن يبحث عن العنف لحل مشاكله»، مشدداً على أن «الصدى الذي يصعد من تعز سيكون صدى سلمياً».



محاولات تشويه صورة المدينة


تُعرف مدينة تعز بأنها «العاصمة الثقافية لليمن»، وأناسها لا يشتهرون بحيازة السلاح، وليس فيها ثكنات عسكرية، كما هي عليه في الوقت الراهن. وعلاوةً على أنها تمثّل الثقل الأكبر سكانياً بين محافظات الجمهورية، برزت المحافظة، خلال مشوار الثورة اليمنية، «ملهمة» لمختلف المدن، وكان شبابها السباقين في تنفيذ المراحل التصعيدية الثورية، والمطالبة ببرامج الحسم.
وفي سياق مسلسل تشويه صورة المدينة، أعلنت الأجهزة الأمنية ضبط كميات من الأسلحة، مشيرةً إلى أنها كانت في حوزة عدد من عناصر الإخوان المسلمين، وأنه جرى ضبط عدد من النساء وفي حوزتهن كمية من الأسلحة المختلفة. وأشارت إلى أن الأسلحة المضبوطة كان الهدف منها تنفيذ أعمال عنف وتخريب.
(الأخبار)