لم تعد الأطماع الأميركية والبريطانية في النفط العراقي، التي كانت جزءاً من الأسباب الفعلية لغزو العراق واحتلاله، سريةً أو محض شائعات يروّجها المؤمنون بعقلية «المؤامرة»، بعدما نُشِرَ الكثيرُ من الوثائق التي تؤكّدها وتبيّن تفاصيلها. آخر المعلومات التي نشرتها صحيفة «ذي أندبندنت» البريطانية مثلاً، كشفت أنّ وزيرة الدولة لشؤون الشرق الأوسط في حكومة طوني بلير، إليزابيث سيمونز، اجتمعت بمسؤولين في كبرى شركات النفط البريطانية، «بريتيش بتروليوم»، قبل خمسة أشهر من غزو عام 2003، وقالت لهم إنّ حكومتها تعتقد أنّ الشركات البريطانية ينبغي أن تأخذ حصّة من نفط العراق واحتياطياته من الغاز مكافأة على مشاركة لندن في الغزو.كذلك فإن الوثائق تشير إلى أن سيمونز اتفقت مع الشركات النفطية البريطانية على «الضغط» على إدارة جورج بوش لكي تحصل «بريتيش بتروليوم» على حصتها من النفط العراقي، بسبب مخاوفها من أنْ توزِّع واشنطن نفط العراق على شركات أميركية حصراً. وأيضاً هناك الوفير من الوثائق المشابهة فيما يخصّ مخطّطات المحافظين الجدد الأميركيين والشركات العملاقة ومطامعهم بالنفط العراقي.
على الأرض، تقول الأرقام إن إيرادات العراق المحتل من مبيعات النفط خلال سنوات الاحتلال الثماني، تفوق إيراداته طوال ثمانين عاماً. خلاصة أدلى بها وزير النفط العراقي الأسبق عصام الجلبي، ولم تعد مجرد «كلام في الهواء» يمكن تصنيفه ضمن «الهجاء والتحريض السياسي من أنصار نظام الحكم الشمولي» الذي أطاحته حرب الاحتلال، بل هي موثقة بالأرقام والإحصائيات الرسمية. فقد أعلن وزير النفط الحالي في حكومة المحاصصة الطائفية، عبد الكريم لعيبي، في مؤتمر صحافي في 20 آذار الماضي، أنّ الإيرادات النفطية المتحقّقة منذ بدء الاحتلال في نيسان 2003 لغاية آذار 2011، بلغت 289 مليار دولار، علماً بأن الأرصدة النفطية المجمَّدة من عهد النظام السابق لم تُحتسب ضمن هذه الحصيلة. وبالعودة إلى الإحصائيات الرسمية لمنظمة «أوبك»، فإنّ إجمالي الإيرادات النفطية منذ سنة 1970 لغاية سنة الاحتلال، بلغت 262 مليار دولار. وبتقدير تقريبي أجراه متخصصون لإيرادات السنوات الواقعة بين سنة 1938، تاريخ اكتشاف النفط بكميات تجارية حين كان البريطانيون يدفعون للعراق بضعة «شلنات» (جزء من الباوند البريطاني) لقاء برميل النفط الخام، حتى سنة 2003، نجد أنّ مجموع الإيرادات النفطية هو 270 مليار دولار، أي أقل من إجمالي إيرادات سنوات الاحتلال الثماني بتسعة عشر مليار دولار.
بعد احتلال العراق سنة 2003، أصبحت عمليات النهب والسرقة والتدمير علنية وبلا قيود. من المعلوم مثلاً أنّ القوات الغازية دمّرت جميع مرافق الدولة العراقية وأحرقت أو دمرت كلياً أو جزئياً جميع الوزارات، باستثناء مقر وزارة النفط، إذ كُلِّفَت قوة متخصصة من قوة المشاة الأميركية «المارينز» بحمايتها ومنع اقتراب أي عراقي منها حتى استحقت وزارة النفط أنْ يُطلِق عليها الإعلام المحلي لقب «قدس الأقداس». كذلك استغلت سلطات الاحتلال في عهد الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، آنذاك، قضية عدم وجود عدّادات على منافذ تصدير النفط في موانئ الجنوب خصوصاً، لاحتساب الكميات المصدرة من النفط الخام، من دون أن يكلف أحد من المسؤولين العراقيين نفسه ويسأل إنْ كان انتزاع العدادات من المنافذ قد حصل بعد الاحتلال أو أنها كانت تعمل أصلاً بدونها.
وفي السياق، يرى بعض الخبراء أن سرقة النفط العراقي لم تكن تجري عن طريق منافذ التصدير العديمة العدادات بشكل رئيسي. ورغم اعترافهم بأن هذه العدادات كان لها دور في السرقة، إلا أنهم يركزون على أنّ السرقات الكبرى والأخطر إنما كانت تحصل عن طريق ثلاث وسائل هي: ــــ التلاعب في حسابات التصدير المدارة آنذاك من طرف الموظفين الأميركيين أنفسهم مباشرة وتحت إشراف سلطات الاحتلال المدنية والعسكرية. ــــ ثانياً من خلال الأسعار المرتفعة جداً والمضاعَفة عدة مرات التي كانت تحتسبها الشركات الأميركية لتصليح وتأهيل المنشآت النفطية العراقية التي لم يجر تأهيل أو إصلاح أيٍّ منها. ــــ وثالثاً من خلال وضع أسعار خيالية ومضاعفة للمشتقات النفطية التي كان يستوردها المحتلون من الكويت ويحسمونها من واردات النفط العراقي.
إنّ بحر الأموال العراقية النفطية الذي سُرق زمن الاحتلال، لا ضفاف له كما سيتضح في ما بعد، ويمكن الشذرات التي تسرّبت من ملفات التحقيق أن تعطي فكرة عن ضخامة المسروقات النفطية؛ ففي حادثة واحدة اعترفت بها السلطات الأميركية، يظهر تقرير رسمي لمسؤول أميركي منخرط في التحقيقات الخاصة أن «نحو 7 مليارات دولار من أموال النفط العراقي المخصصة لإعادة إعمار البلاد قد نُهبت». واللافت أن واشنطن تعلِّل عدم فعالية جهودها في البحث عن هذه الأموال المسروقة بـ«التردُّد العراقي الواضح في التعاون مع لجنة التحقيق». ولا يمكن تفسير هذا «التردُّد» إلا بوجود أطراف عراقية متورطة مع الجانب الأميركي في تقاسم قيمة هذه السرقة التي يعتبرها المفتش الأميركي العام لبرنامج إعمار العراق، ستيوارت بوين، «واحدة من أكبر الجرائم المالية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية». أما صغار اللصوص من مقاولين أميركيين وسياسيين رفيعي المستوى، فقد ذكرت تقارير أميركية أنهم متهمون بـ«الاستيلاء على عشرات الملايين عن طريق العمولات والكسب غير المشروع خلال أيام الفوضى الأولى عقب الغزو الأميركي للعراق، إلا أنهم ادّعوا أنّ المسؤولين في العراق آنذاك كان لهم النصيب الأكبر في الاستيلاء على هذه المبالغ».
إنّ جبل الفساد الخاص بالحكومات العراقية التي أُلّفت بعد الغزو لم تبرز منه سوى قمته حتى الآن، ومن المتوقع أن يُكشف عن حقائق لا تقل هولاً عن تلك التي اكتشفت والمتعلقة بإيرادات النفط المجمدة أو التي سلمتها سلطات الاحتلال إلى تلك الحكومات. لا يُعرف في الوقت الحاضر بدقة كيف تصرّفت الحكومات العراقية المتعاقبة بإيرادات النفط الخام، وما مدى قدرتها وحريتها في التصرف بتلك الأموال التي تودع في بنك أميركي هو «بنك نيويورك الاتحادي». فمنذ هزيمة نظام صدام حسين في حرب الخليج الثانية، وفرض الحصار الدولي على العراق إثرها، والذي لا يزال مطبقاً حتى اليوم، أجبرت الاتفاقيات الإجرائية التفصيلية لقرارات الأمم المتحدة العراقَ على أن يودع إيراداته النفطية في حساب خاص يدعى «صندوق التنمية العراقي» في البنك الأميركي المذكور. هذا يعني أنّ العراق لا سيادة حقيقية ومباشرة له على هذه الأموال، لكونه تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ويعني أيضاً أنّ تلك الأموال ستفقد الحصانة القانونية وتصبح عرضة للمصادرة والنهب من جانب الأطراف الدولية، وبينها إيران والكويت المطالِبتان بتعويضات ضخمة عن حروب نظام صدام ضدهما، بمجرَّد إصدار قرار أميركي بهذا الصدد تنفيذاً لإخراج العراق من طائلة البند السابع. أما حين تخرج الأموال من «بنك نيويورك الاتحادي»، وتدخل في حسابات الحكومة العراقية، فإنّ المراقبين يتوقعون أن تكون أفواه وحوش الفساد المتغوّل في مؤسسات حكم المحاصصة بانتظارها.
خارج إطار التصدير الحكومي الرسمي للنفط الخام، سواء كان بعدادات أو بدونها، كشف الإعلام ومنظمات المجتمع المدني النقابَ عن مسارب أخرى غير رسمية، لعل أكثرها فعالية وشهرة ذلك الذي تعتمده جهات كردية لتهريب النفط الخام من الإقليم الشمالي نحو إيران. إنّ شركة «سومو» العراقية هي الجهة الرسمية المخوَّلة تصدير النفط ومشتقاته. ولكنّ جهات حزبية وميليشيوية كردية تهرّب نفطاً خاماً مستخرجاً من آبار في الإقليم تصل قيمته إلى 264 مليون دولار شهرياً. أما الواقعة التي أثارت ردود فعل قوية في الشارع العراقي، فتمثّلت في الكشف عن قيام تلك الجهات الكردية بتهريب مشتقات نفطية مستوردة من طرف الحكومة الاتحادية وموزعة بأسعار مخفضة كحصة استهلاكية لإقليم كردستان العراق إلى إيران والاستيلاء على عائداتها المالية. وقد تصاعد التوتر بين بغداد والسلطات المحلية الكردية في العام الماضي بعدما بلغت عمليات التهريب حداً جعل قوافل الحاويات والسيارات الحوضية التي تعمل في التهريب، تمتد لمسافة عدة كيلومترات في الطريق الدولي الرابط بين إيران وشمال العراق. حينها، ولامتصاص الغضب الشعبي كما يبدو، وجّهت حكومة نوري المالكي مذكرات احتجاج ومطالبات بتفسير ما يحدث إلى حكومة أربيل، ولا تزال تنتظر إجابات على تلك الاستفسارات.
أما في جنوب العراق، فقد اتخذت عمليات تهريب النفط طابعاً لا يقل خطورة وتحدياً عما سبق ذكره. تهريب أسهمت فيه الأحزاب والميليشيات والجماعات المسلحة المهيمنة على تلك المنطقة. هنا، جرّت السيطرة على بعض الموانئ الصغيرة كما حدث مع ميناء «أبو فلوس» في البصرة، حيث بدأ تهريب كميات من النفط الخام. واستمرت الحال على ما هي عليه حتى شنّت حكومة المالكي عملية «صولة الفرسان» في 25 آذار 2008 التي حدّت كثيراً من تلك الظاهرة، ولكنها لم تقضِ عليها.
يجري كل هذا التدمير الخارجي والذاتي وسط ظروف أمنية وإنتاجية بالغة الصعوبة؛ فالبنية التحتية لاستخراج النفط العراقي وتكريره وتصديره صارت بالية وأقرب إلى «الخردة» والحطام. على سبيل المثال، فإنّ أكبر مصافي البلاد، وهي مصفاة «الدورة» في ضواحي بغداد، أُنشئت في العهد الملكي سنة 1953، وبطاقة إنتاجية تصل إلى 110 آلاف برميل يومياً. ورغم أنها تحولت إلى حطام ودمّرت الطائرات الأميركية أجزاءً واسعة منها خلال الحرب، إلا أن النظام السابق أجرى عليها عملية ترميم واسعة، ثم أدخلت عليها الحكومات العراقية في عهد الاحتلال تطويرات داخلية تمثلت في إضافة وحدات مستقلة للتكرير داخلها وخارجها صعدت بالإنتاج إلى 215 ألف برميل يومياً، وهي كمية متواضعة وبائسة إذا ما قُورنت بمصافي الدول المجاورة كالكويت وإيران، رغم أنها كلّفت من الأموال ــــ كما يقول متخصصون ــــ ما يكفي لبناء أكثر من مصفاة بحجم مصفاة الدورة وإنتاجيتها.

(غداً: مشاريع قوانين «تطييف» النفط العراقي)



«بلاك ووتر» متخفّية

كشفت مذكرات سرية أميركية حصل عليها موقع «ويكيليكس» ونشرها يوم الثلاثاء الماضي، أنّ مئات الموظفين السابقين لشركة «بلاك ووتر» المحظورة في العراق إثر ارتكابها جريمة قتل 14 مدنياً غرب بغداد عام 2007، واصلوا العمل لمصلحة شركات أخرى لحماية الدبلوماسيين الأميركيين في بغداد. ووفقاً لبرقية من السفارة الأميركية يعود تاريخها إلى الرابع من كانون الثاني 2010، فإنّ «هناك العديد من الموظفين السابقين في شركة بلاك ووتر لا يزالون يعملون في شركات أمنية أخرى في العراق، ولا سيما شركة (تريبل كانوبي) و(داينكورب)، تقدم الحماية لنا». وفي برقية أخرى يعود تاريخها إلى 11 كانون الثاني 2010، تعبّر السفارة عن قلقها من الجهود العراقية لإقصاء موظفي «بلاك ووتر» عن البلاد، مشيرة إلى أن ذلك قد يقلل من قدرة شركة «تريبل كانوبي» على توفير الحماية الأمنية للسفارة. وجاء في البرقية أن «السفارة الأميركية تدرك أن شركة تريبل كانوبي توظف حالياً مئات من موظفي شركة بلاك ووتر السابقين».
(أ ف ب)