البداوي | على مدخل مخيم البداوي صخرة إلى جانبها خريطة فلسطين التي كتب عليها أننا نبعد 165 كلم عن الأرض المحتلة، ما يوحي بأن أهل المخيم مسكونون بهاجس العودة. لكن خطوة واحدة داخل المخيم تكفي لإطاحة فكرة هاجس العودة، لتصبح حلماً دونه تفاصيل مصائب العيش اليومي المتراكمة على مدى عقود.وإذا كانت مساءات رمضان وسهراته في كل مكان تختم نهاراً صيفياً محرقاً فتطفئ الظمأ وتملأ البطون الخاوية، إلا أن «العالم في البداوي عايفة خلاقها، وبعد الساعة 11.30 ما بتلاقي حدا بالشارع»، حسب ما يقول لنا أحد أبناء المخيم. هذا ما يرويه أيضاً بائع القهوة إبراهيم الطوفي الذي يرى أن «رمضان هذه السنة غير عن كل السنوات السابقة»، وبالأصل يضيف الطوفي «برمضان وبغير رمضان الشغل مش زي ما كان». وتخفي عبارة «مش زي ما كان» تتمة هي «قبل حلول نازحي البارد هنا» منافسين ابن المخيم على لقمة عيش لم تكن تطلع إلا بطلوع الروح، فكيف حين تضاعف عدد السكان؟ هذا هو الأسوأ في الوضع. فابن البداوي الذي فتح ذراعيه لأهالي البارد من أجل استيعاب مأساة تهجيرهم الثانية، بات يضيق ذرعاً بهم لأنهم باتوا ينافسونه على «استخراج» الرزق، ويضغطون على موارده الشحيحة أصلاً. فالطوفي، وهو أفضل حالاً من غيره من سكان أحياء المخيم الداخلية، كان يعمل سائق تاكسي منذ ثلاث سنوات، إلى أن «سلبني أهل البارد» تلك المهنة، حسب ما يقول، لأن «كل أهل البارد يشتغلون على الخط».
ولأن شدة الضغط لا تولّد الثورة دائماً، يبدو أن الوضع الضاغط على المخيم جعل بعض المهجرين ثانية من أهل البارد ينظرون باستعلاء إلى أبناء جلدتهم. فابن صاحب محل حلويات القاسم الذي أقفل محله في البارد القديم قبل الحرب، حيث «كانت الزبائن تقف طوابير» بانتظار دورها يقول «أكره البارد. بات مضجراً»، ويضيف «حتى نفسية العالم تغيّرت هناك. صاروا بخلاء»، ثم يستدرك شارحاً «أقصد غير قادرين على الدفع». ويقول الرجل بدون تردد إنه غير راغب في العودة إلى البارد، «هنا الناس أكثر، أما هناك فلم يعد الزبون الغريب عن المخيم يرتاح إلى الدخول إليه والتبضّع من محاله كما كان في السابق». ومع ذلك، يضيف القاسم، «بالكاد عم نطلّع أكلنا وشربنا»، وهو ينتظر نهاية رمضان ليرفع الأسعار، «حتى لا نُتّهم باستغلال الناس في هذا الشهر».
هذا خارج المخيم على طريق جبل البداوي العام الذي تغيّرت معالمه نسبياً بعد نزوح أهل البارد إليه، وحيث تقاسم بعض الميسورين من نازحي البارد السكن مع اللبنانيين من سكان جبل البداوي. أما في داخل المخيم، فتضجّ الطريق الرئيسة بحركة يشكو العديدون من أنها «من دون بركة». هذا إذا ما وضعنا جانباً الواقع الاجتماعي والأوضاع النفسية التي يعانيها أولئك الصبية الذين هربوا من ضيق الأزقة التي لا تظهر مداخلها إلا من بعد إمعان النظر، ثم راحوا يتحلقون في جلسات يتصاعد منها دخان السجائر (في حال استبعاد احتمالات أخرى) فضلاً عن أصناف النظرات والمشاكسات مع «الرايح والجايي»، وهو ما يزعج المحافظين من أهل الأزقة الداخلية. فالسيد محمد (اسم مستعار) يسهر مع خمسة من أبنائه وبناته داخل غرفة واحدة هي للجلوس والنوم والطعام ويتابعون المسلسلات الرمضانية، إذ ليس للمنزل/ الغرفة شرفة أسوة بمعظم بيوت الأزقة الضيقة، والوالد يفضّل عدم خروج أولاده وبناته إلى الشارع العام المشرّع على من هبّ ودبّ، تجنّباً لكلام الناس «ووجع الراس». ربّ المنزل يعمل في الباطون بمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع، أي على قدر ما يتيسّر. تلزمه سمّاعة أذن، لكن مساعدات الأونروا تقلّصت كثيراً، والسبب؟ «الحق على أهل البارد لأنهم يستهلكون موازنة الأونروا»! ويدردش صاحب المنزل مع جار له بصوت منخفض متسائلاً عن قرض بخمسمئة دولار ليحوّل قبواً تحت غرفته إلى دكان قد يسترزق منه. يظن السامع أن المبلغ المذكور هو قسط شهري، لكن بعد الاستيضاح يتبيّن أن المبلغ هو القرض بالكامل، غير أن الاقتراض مشروط بقدرة طالبه على الفصل بين موازنة الدكان، ومصروف الأسرة! في منزل ملاصق بنتان تعيشان مع الوالدة المقعدة. رابحة محمد خضر، الابنة الكبرى، تعيل الأسرة. مصادر العيش مساعدات المحسنين، وعندما يحلّ الربيع تتوجه رابحة نحو جبل الفوار لتجمع رطلاً أو رطلين من الخبيزة لبيعها على أرصفة طرابلس. استفحلت إفرازات الغدة لدى رابحة، «فضربت عيوني»، ودائماً الحق على نازحي البارد، فـ«مساعدات الأونروا والنجدة الشعبية كلها لمرضى البارد». أما أخت رابحة فتحصل على مدخول يقارب ثلاثة آلاف ليرة يومياً، إذ تعمل في تغليف حبوب الشوكولا داخل المنزل لمصلحة أحد المصانع، في نوع مخفي من الاسترقاق. «تغليف كافة حبات الشوكولا في الكلغ الواحد مقابل ما لا يتجاوز 250 ليرة لبنانية». ثم يفتح باب الكلام على استعباد مكشوف، حيث في المخيم أربعة مصانع شوكولا، أجر العاملة فيه (كافة العمال من الإناث) سبعة آلاف ليرة، بدوام عمل من الثامنة صباحاً حتى الرابعة من بعد الظهر، وبالعمل الإضافي حتى السابعة يصبح الأجر عشرة آلاف، والمفارقة أن قسماً كبيراً من إنتاج تلك المصانع يورّد إلى محال الحلاب والسي سويت، حسب هؤلاء.
زقاق آخر يفضي إلى حي المهجرين، مهجري تل الزعتر والمية ومية. عادي جداً أن يكون عرض الزقاق متراً ونصف المتر. لكن المثير أن ذلك الزقاق يحوي تفرعات تفضي إلى ممر لا يظهر أوّله من آخره، عرضه نصف متر فقط، وللتجوال بين البيوت التي يفصل بينها الممر يمر المتجول ملاصقاً لنوافذ الغرف والحمامات، ولا يحتاج إلى تدقيق السمع ليحصي الهمسات في داخلها، فضلاً عن كون معظمها لا يزال مسقوفاً بالتنك. أما الدخول إلى حرمة تلك البيوت والتعرف إلى ضيق المساحة، فيكفي لتفسير صمت الفلسطيني في نهر البارد وقبوله السكن في براكسات الحديد، كما يكفي لعدم احتجاجه على مساكن الـN1 والـN2 حيث يحتاج الساكنون إلى إعادة تفصيل مفروشات المنزل لتتواءم مع عرض المداخل ومساحات الغرف.
ما يميّز الحجرات التي يسكنها مهجّرو تل الزعتر والمية ومية هو احتفاظهم بتلك النظرة إلى «الثورات العربية» بين حقد على حكام العرب الذين «بلّوا جميعاً أيديهم بوجع الفلسطيني ودماءه»، إضافة إلى حذرهم الشديد من تجار الثورات الذين أثروا على حساب القضية، وهو ما يلخصه أحد الساكنين هناك، رافضاً الإفصاح عن اسمه، وبخاصة أن اللجان الشعبية والفصائل والمنظمات والمؤسسات الخيرية التي يغص بها المخيم طولاً وعرضاً تعجز عن تنظيم أسلاك الكهرباء في المخيم، وعن إيصال حبة الدواء إلى مستحقيها. لذلك، «يميّع» الحديث قائلاً «دعونا من السياسة، فمسلسلات رمضان أكثر متعة وفائدة».



أُسّس مخيم البداوي عام 1955 فوق تلة في شمال لبنان على مسافة 5 كيلومترات إلى الشمال من مدينة طرابلس.
نزح إلى المخيم خلال أزمة البارد حوالى 27 ألف لاجئ، فتضخّم عدد سكان مخيم البداوي جرّاء ذلك من 15 ألفاً إلى 30 ألفاً. وفي منتصف عام 2009، كان ما يقارب 10 آلاف شخص من أبناء البارد لا يزالون يعيشون في مخيم البداوي وفي المناطق المحيطة به. وقد مثّل ذلك ضغطاً كبيراً على خدمات الأونروا في البداوي، وأضاف أعباءً إضافية على سكان البداوي أنفسهم. بالنسبة إلى الأونروا، فقد أنشأت مساكن جاهزة للمشردين، وعملت على توسعة الخدمات الصحية في مخيم البداوي لتتواءم مع عدد السكان المتزايد.