في تأكيد لتحديهم الإبادة المباشرة، أو تبديد هويتهم، كان ــ وربما لا يزال ــ يحلو للفلسطينيين أن يشيروا إلى أنفسهم دوماً بأنهم ليسوا شعباً من «الهنود الحمر»، وذلك في إصرار على تثبيت اختلاف في المسار والمصائر. لا تهدف هذه الإشارة إلى التقليل من أهمية نجاح الفلسطينيين في الحفاظ على هويتهم وتمسكهم بحقوقهم، والبقاء حتى الآن على حال من التماسك النسبي، لكنها تتقصد التنبيه إلى جهل حقيقي بمن يسمون «الهنود الحمر» وبما حدث لهم، وإلى حقيقة وجود تشابه كبير بين ما واجهته الشعوب والأمم الهندية في شمال أميركا، وما واجهه ويواجهه الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين، في وقت تتوافر فيه أسباب للخشية من تشابه كبير في المآلات أيضاً.
ربما لا يلام الفلسطينيون ولا غيرهم كثيراً، بشأن تلك الصورة النمطية التي نجحت دعاية المستوطنين الأوروبيين البيض في ترسيخها عن الشعوب الأصلية في الأرض، التي باتت تعرف بالولايات المتحدة. جرى تقديم هؤلاء بوصفهم مجموعة من القبائل والجماعات البدائية المتوحشة: رجال عراة يحملون حراباً ورماحاً وسيوفاً قصيرة ويواصلون الغزو والنهب والصراخ. لا تمت هذه الصورة إلى الواقع بأي صلة؛ بل تكشفت حقائق كثيرة منذ وقت طويل عن حضارة تلك الشعوب والأمم وثقافاتها. وعن الإبادة الوحشية المنظمة التي تعرضت لها ممالكهم ومدنهم وقراهم وزراعاتهم، ونظام عيشهم كله.
لكن التقصير واقع وكبير عندما يتعلق الأمر بدرس أوجه التشابه الفعلي بين الغزاة المستوطنين الأوروبيين الذين توجهوا إلى «كنعان الجديدة الإنكليزية»، وبين الغزاة المستوطنين الأوروبيين اليهود الذين توجهوا إلى كنعان الفلسطينية، بناءً على «وعد إلهي» وعهد مع «رب الجنود». ثم أوجه التشابه الفعلي بين ما حدث لـ«الهنود الحمر» وما حدث للفلسطينيين. ربما كان لإدراك أوجه الشبه تلك، أن ينجي الفلسطينيين من الوقوع في «الشرك الكبير» الذي نصبته لهم أحاديث السلام، وحكاية «الدولة المستقلة» المراد منحها لهم من العدو، وعلى أرضهم هم.
في كتابه الصادر حديثاً عن «رياض الريس للكتب والنشر» يتابع الباحث الدكتور منير العكش، مشروعه البحثي الرائد والكبير، عن الإبادة التي تعرضت لها شعوب وأمم القارة الأميركية الشمالية على أيدي المستوطنين الأوروبيين. وكانت باكورة البحث في كتابه المميز «أميركا والإبادات الجماعية»، ثم في كتابيه عن «الإبادات الثقافية» و«الجنسية»، وصولاً إلى كتابه محل الحديث «دولة فلسطينية للهنود الحمر». يكتب جورج واشنطن للجنرال سيلفن، المكلف تنفيذ مقتلة هائلة «للمتوحشين»، أنه «عندما نسحقهم سحقاً كاملاً، علينا أن ننادي بالسلام مستغلين خوفهم لتحقيق المزيد من المكاسب». تذكر هذه الكلمات بأخرى مشابهة تنسب إلى إسحاق شامير (رئيس حكومة العدو الإسرائيلي) أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى. يقول شامير: «حينما تمسك مبادرة للسلام بيد، تستطيع أن تضرب باليد الأخرى بقوة».
من السهل اكتشاف تطابق كامل بين الغزوتين الاستعماريتين لأميركا الشمالية وفلسطين: «وعد إلهي لشعب الله بأرض بلا شعب»، وقدرة على امتلاك ما يكفي من الوقاحة والقوة معاً للقول إن كل ما يحدث، إنما هو تنفيذ حرفي وأمين للوصايا الإلهية، بغية إنفاذ العهد مع الله، ثم تمدين هؤلاء المتوحشين و«المنكرين» في نصوص أخرى. ثمة تطابق أيضاً في تنفيذ المجازر، و«مسوغات الذبح». هذه وقائع معروفة إلى حد ما، لكن ما يثير الانتباه حقاً يتعلق بمسألتي «السلام» و«الدولة»: «سلام» لم يتحقق، و«دولة» ظلت تتغير حدودها ويتبدل مكانها، حتى انتهى أصحاب البلاد في «معازل بائسة»، لا تشكل نسبة تذكر من مساحة ما بات الولايات المتحدة.
على كل تلك المساحة من البحر إلى البحر، كانت هناك شعوب وأمم وممالك. كانت هناك مدن وقرى ومزارع، جميعها ملك لأصحابها منذ ما لا يعرف من السنين. وعندما بدأ الغزو الاستيطاني بإقامة بؤر استيطانية صغيرة، كان الهدف الأساسي يتصل بالتوسع عبر القتل والاقتلاع والنفي. لم تكن تلك الشعوب ساذجة، لكنها كانت تحمل منظومة ثقافية مختلفة عن ثقافة الغزاة الاستعماريين القتلة، لذلك فهي لم تندحر بسبب عدم الفهم، بل ربما بسبب التمسك بفهم عميق للحياة وغايتها. وقد نجح المستعمرون كثيرا عبر المذابح والاقتلاع، لكن نجاحاتهم الكبرى كانت من طريق «المعاهدات» والوعد بـ«الدولة المستقلة»، ثم نكث العهود والمواثيق، والقيام بمذابح جديدة وعمليات طرد.
عند قراءة ما كتبه العكش وما عرضه من وثائق، لن يفاجأ المرء بعمليات «تسميم المفاوضين»، ولا اقتراحات «تبادل الأراضي» ولا «التنسيق الأمني» بتأليب شعوب على شعوب أخرى، ثم قتل من أدّوا الخدمات، وهم يعتقدون أنهم يسيرون في طريق السلام. هل يذكر كل هذا بحكاية أخرى؟
عام 1974، كانت الدولة الفلسطينية المستقلة، كلمة السر في التنازل الأول عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في أرضه. وجرى استخدام «الدولة» مسوغاً للموافقة على اتفاق أوسلو عام 1993. بعد كل تلك السنوات، ازدادت مساحة المستوطنات، وتضاعفت أعداد المستوطنين... واليوم تجري عملية هائلة لتبديد اللاجئين، وبدلاً من العودة إلى ديارهم، يحدث نوع من إعادة الانتشار في مناف بعيدة... هل ستختلف المصائر بعد كل هذا التشابه في المسار؟