تونس | بعد وقوع الهجوم الإرهابي على أحد فنادق محافظة سوسة نهاية شهر حزيران الماضي، اتخذت الحكومة التونسية إجراءات صارمة وحساسة كانت قد حاولت سابقاً تفاديها. من بين أهم تلك الإجراءات كان إجراء غلق المساجد «الخارجة عن سيطرة الدولة» (نحو 80) وعزل الأئمة الذين يتبنّون خطاباً متشدداً، إضافة إلى غلق الجمعيات القرآنية والدينية التي يشتبه في تلقّيها تمويلات، خليجية خصوصاً، وُظّفت لتسفير التونسيين إلى بؤر التوتر (أهمها سوريا) بعد تدريبهم.
هؤلاء الأئمة «ذوو النفوذ» سطع نجمهم بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وأصبح لهم تأثير وسلطة كبيران في البلاد، خاصة خلال حكم «حركة النهضة». ورغم كل الشبهات التي تحوم حول هؤلاء الأئمة، بقي نفوذهم على ما هو عليه، ولم يحتاجوا حتى إلى تكليف من جانب وزارة الشؤون الدينية لاعتلاء منبر الإمامة.
لكن منذ عملية سوسة التي صدمت الجميع في تونس، تغيّرت الموازين. وحتى «حركة النهضة» التي كانت تحمي أئمة من بين هؤلاء بصورة أو بأخرى، كبّلت الصدمة حركتها ولم يعد لها أي حجج لترفض المس بنفوذهم.
وشمل العزل الذي قادته الحكومة العديد من الأئمة المؤثرين في تونس والمعروفين بتمردهم على سلطة الإشراف، وكان أوّلهم الإمام المعروف بعلاقته مع رئيس «حركة النهضة»، راشد الغنوشي، ومع جلّ قياداتها، البشير بن حسن، وكذلك رضا بلحاج، وهو المتحدث الرسمي باسم «حزب التحرير». وقد امتثل بن حسن وبلحاج لقراري العزل، حتى إن الدعوة إلى التظاهر أمام وزارة الشؤون الدينية تم إلغاؤها، تجنّباً للصدام مع الأمن.

لم تعلن «النهضة» موقفاً رسمياً
رغم تململ قواعدها حيال القرارات


وفي السياق، سُجّل في نهاية الأسبوع الماضي قرار مهم، أثار جدلاً كبيراً، حتى بدا كأن صفحة سطوة الأئمة المقربين من «حركة النهضة» قد طويت نهائياً. وتمثّل ذلك في قرار وزير الشؤون الدينية الحالي، عثمان بطيخ، القاضي بعزل سلفه على رأس الوزارة، نور الدين الخادمي، من إمامة «جامع الفتح» في تونس العاصمة، وهو الجامع الذي اشتهر بقصة هروب زعيم تنظيم «أنصار الشريعة»، أبو عياض، منه، رغم محاصرة الأمن للجامع.
واستند قرار عزل وزير الشؤون الدينية في حكومة «حركة النهضة» إلى واقع السماح لقناة «الجزيرة» بتصوير خطبة يوم عيد الفطر من دون العودة إلى سلطة الإشراف، فيما يعلم الجميع في تونس أنّ هذا الاستناد ليس إلا مبرراً لإبعاد الخادمي بسبب رفضه الخضوع لسياسة الدولة الدينية التي تسعى إلى توحيد «خطب الجمعة» وإلى إبعادها قدر الإمكان عن مواضيع الجهاد.
وفي حديث إلى «الأخبار»، رأى نور الدين الخادمي أنّ قرار عزله «جائر» ويستهدف شخصه كما استُهدِف بعض الأئمة من قبله، الأمر الذي من شأنه، وفقاً له، المس بمصداقية وزارة الشؤون الدينية بسبب حملتها على أئمة معروفين باعتدالهم عوض التعاون معهم، والذي سيخلق فراغاً أيضاً على مستوى الخطاب الديني المعتدل والمناهض للعنف سيستغله المتشددون.
وتناول الإمام المعزول، خلال حديثه إلى «الأخبار»، مسألة سعي وزارة الشؤون الدينية لتوحيد الخطب، مجدداً رفضه هذا الإجراء باعتباره عودة لتكريس منطق إملاءات السلطة على الأئمة، الذي ساهم خلال فترة حكم بن علي وبورقيبة في تصحّر الثقافة الدينية لدى التونسيين، وفقاً له. وأشار كذلك إلى أنه سيلجأ إلى القضاء للطعن في القرار.
من جهة أخرى، أكد سليم بالشيخ، وهو مسؤول في وزارة الشؤون الدينية التونسية، في حديث إلى «الأخبار»، أن قرارات العزل «ليست شخصية ولا تستهدف إماماً بعينه»، بل تندرج في إطار تطبيق القانون بعد تساهل طال أمده. وأشار بالشيخ إلى أنه ستتم دراسة ملفات بعض الأئمة، ومن الممكن إعادتهم إلى مواقعهم.
في ظل هذا المشهد، لم تعلن «النهضة» موقفاً رسمياً رغم تململ قواعدها حيال قرارات الحكومة، واكتفى بعض قيادييها بإعلان تصريحات جانبية رافضة لعزل الأئمة، خصوصاً وزير الشؤون الدينية الأسبق، نور الدين الخادمي.
القيادي في «حركة النهضة» وعضو مجلس الشورى، وليد البناني، عبّر في تصريحات إعلامية عن استغرابه قرار إبعاد «أئمة معتدلين يحترمون مؤسسات الدولة ودستورها»، خاصة أن خطب الأئمة الذين تقرر عزلهم لا تحمل، وفقاً له، أي فكر متطرف أو دعوات إلى العنف، بينما كان، مثلاً، موقف عبد اللطيف المكي، وهو قيادي آخر في «النهضة» ووزير صحة سابق، أكثر حدة، إذ قال إنّ «الطريقة التي يتم بها عزل الأئمة المعروفين باستقلاليتهم وقوة شخصيتهم وجرأتهم تنم عن أن عقلية بن علي في التعامل مع المسألة الدينية تعود بسرعة».
عموماً، رغم رفض قيادات من «النهضة» للحملات التي تقوم بها الحكومة والتي قد تصل إلى حدّ عزل مفتي تونس، حمدة سعيّد، فإن وضع «النهضة» يبدو صعباً باعتبار أنها جزء من الحكومة الحالية، وبالتالي فهي تتحمل جزءاً من مسؤولية تلك السياسات أمام أنصارها الذين يكابد راشد الغنوشي في كبح جماح فئات منهم. ويبدو الأمر أصعب، خصوصاً إذا ما ارتبط بتغيير تعاطي الدولة مع المسألة الدينية في تونس.