غزة وحيدة الآن!


غزة الجميلة تشربُ فنجان قهوتها اليوم بتمهلٍ شديد، تخبئ الأمل وتدخرهُ إلى أجلٍ مجهول. وحيدة الآن، وحيدة غزة يا أسماء!، لا أحد يُوشوشُ في أُذنها ولا صديق يُربِّتُ كتفها حين يأتي دور الغول في الحكاية!

إنني على الرصيف أرقبُ الخطوات، الأقدام، مقاسات الأحذية!. منها ما يأتي ومنها ما يذهب.. أوراق خضراء وصفراء، بائعون، أطفال.. شيوخ، كل شيء يُبهر الدمع في عينيَّ. هذا الشارع حفِظَنا تماماً، وقهوة الشارع أيضاً، أتذكرين؟! هي عادية لكنها فقط معك كانت تبدو أروع ما يمكن أن نفعله. أمشي يداي فارغتان، شمسٌ تحرقُ جبهتي كما تفعل بكل من يجرؤ على المشي. معي تحديداً كانت أكثر اشتعالاً، ككهرباء قويّة، صادمة!
لم تعد المسافة الفاصلة بيننا مسافة مكان، مسافة ساعة! بين غزة ورفح، أنتِ الآن تلعبين بكراتِ الثلج في بلادٍ بيضاء وفاترة! بمقدار هذا الحرّ الحارق في غزة، هل قلتِ لي: نرويج!.. نرويييج، أتعلمين؟ يمكننا أن نضعها اسماً لمقطوعة موسيقية لـ «ياني مثلاً» أما غزَّة ، فلا يمكنها إلا أن تكون مطلعاً لقصيدة حماسيَّة!
ليست الكلمات وحدها، فكلّ شيء مُختلف. أتُصبحين يوماً امرأة مُختلفة عمَّا عرفت، وربما غريبة مُغتربة؟ الثلج كفيلٌ بتغيير درجة حرارة دمَكِ، فهل يصل التغيير الى بث ثقافة أُخرى تماماً فيك، تلك الطفلة المُدللة الجميلة «أمانتُكِ يا أسماء» فلا تُهمليها!
هكذا إذاً، لم نُصدِّق كلامَ الكِبار، ولا العابرين الساذجين. قلنا: صداقة ضدّ الحواجز والمسافات! فهل كنتِ تقصدين الاغتراب لنُثبت هذه النظريات؟ لطالما لم يكن طموحي يوماً التنظير، ولا أظنه طموحكِ، فلماذا كان السفر؟
نعم قُدِّرَ لنا ذلك، بالأحرى قُدِّرَ لي حمل إرث المُسافرين!.
قلتُ لكِ ذات مرة: كم نحن غريبون.. سريعاً ما نتأقلم مع كل شيء، على أسوأ الأوضاع حتى! والآن أقول: نتأقلم سريعاً، لأنه سريعاً أيضاً؛ ما يأتِي همّ آخر ويُلهينا، سافرتِ. هذا أولاً. والآن أبحث عنك كمفقودة من الخريطة، أتبقى غزة غزة بدونكِ؟.تبقى ولمَ لا؟ رائحتكِ في كل مكان، فهل ستبقى هي فيكِ.. وقلتِ: يوماً سأعيش خلف هذا البحر.. وضحكنا، فلماذا قلتِ ما قلتِ..!
أماني شنينو ــــــ غزة

■ ■ ■

أكادُ اسألُكِ إنْ كنتُ لا أزالُ هناك



كيف لي أن أتحايل علي وجع النص والمسافة ، دون أن أتحسس غيابي وغيابكِ معاً، ودون أن أجرّب حواف الفناجين البيضاء الباردة هنا لأجد ظلّك ِ فأعود دون ظلّي، و أدرك أنّ كل المقاهي المنمقة الأنيقة و ماكينات القهوة الحديثة، لا تصنعُ رائحة دافئة، لأكوابِ آلة القهوة الرديئة المهملَة على رصيف مشينا المتسكع.
كانت المدينة تقرأني كما تقرأ كفها، لكني لم أفهم غموض النبوءة التي تركها لي البحر هناك. وكنت أعرفُ من صمته أنني لا أنتمي لمنبت الموج ولا لانتهائه، و أنيّ لستُ من مدن الملح ولا السكر! كنت ابنة السفر لوالدين لا يحملان ِ غير وثائق اللاجئين المنتهية الصلاحية، لم يكن هناك احتمال حياة ٍ أخرى، لصغيرة فقدت طفولتها في المطارات ، وكبُرتْ فجأةً في جوازات السفر المجددة التي لا تحمل ُ اسم وطن.
غير أني احمل قلبي الآن وآخذني في حقيبة ، واترك لكِ الأماكن والأرصفة، بعض الأسرارِ و الكتب و فواتير المقاهي ، وآخذني لبلاد ٍ بعيدة لا تعرف كلتانا لغة الأخرى، فأحيي جارتي صباحا ً بالإشارات، و تتمنّي لي في المساء يوما ً سعيداً بابتسامة ٍ ركيكة .
فأضحك ُ في سرّي وأكادُ اسألُكِ إنْ كنتُ لا أزالُ هناك، وأنّ غيابي قد سرقني منّي وتركني هنا وحيدة بذاكرةٍ ملتبسة، أتمني لو أفقدها، فتكفّ تلك اللعنة عن ملاحقتي ، وأمسكني في اللحظة الأخيرة وأنا أسألك ساخرة: كيف غزة؟ وأسكت عند علامة الاستفهام، ستنساني غزة عمّا قريب و ستبقى كما هي، لا تحمل من ذكرى مفقوديها غير الأسماء وبعض الصور القديمة لوجوههم الأصلية التي سقطت بالتوالي..
لم تتغير درجة حرارةِ دمي، ربما لأنّ الثلج لم يهبط بعد، ولم أتغير أنا كثيراً، صرت ُ ألبس ساعة يدٍ لم يعتدها معصمي، وآكل السمك الذي أكرهه، ولا أكملُ فنجان قهوتي الكبير، و صارت أحذيتي .. صارتْ أصغر بقليل ٍ من مقاس قدمي!
أسماء شاكر ــــــ أوسلو