دمشق | «انسحبت وحدات الجيش السوري إلى ثُكنها، بعدما أنهت مهماتها في القضاء على الجماعات الإرهابية المسلحة في مدن سورية مختلفة، مثل دير الزور، وحماه، وإدلب». هذه هي الرواية الرسمية التي قدمها الإعلام السوري وحاول تأكيدها من خلال سماحه لبعض مراسلي وكالات الأنباء والقنوات التلفزيونية العالمية بالدخول إلى هذه المناطق، وتدوين مشاهداتهم وانطباعاتهم علّها تفيد في إقناع العالم بوجود عصابات مسلحة مدعومة من الخارج تقوم بأعمال تخريبية وإجرامية. لكن هذه الرواية لم تقنع المعارضة السورية التي أكدت أن جميع هذا الروايات الإعلامية الرسمية ما هي إلا «محاولات يائسة من النظام لكسب المزيد من الوقت، ولإرضاء المجتمع الدولي وتخدير السياسة العالمية، التي لا تزال تلوّح بالتصعيد تدريجاً، في محاولة جاهدة من الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة لاستصدار قرار إدانة من مجلس الأمن الدولي بحق النظام السوري». ومثلما توقع العديد من رموز المعارضة السورية قبل أيام، لم يكترث الحراك الشعبي بمجمل التحركات السياسية الدولية، أو بنتائج وتداعيات زيارة وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو ولقائه الرئيس السوري بشار الأسد. ورغم الكلام التركي الذي يمكن إدراجه في خانة التهدئة، خرجت العديد من التظاهرات في مختلف المدن والمحافظات، وأبرزها كانت في المدن التي انسحب الجيش منها قبل أيام أو ساعات، وتحديداً في حماه ودير الزور وإدلب. وقال «المرصد السوري المعارض لحقوق الإنسان» إنّ حصيلة قتلى تظاهرات جمعة «لن نركع إلا لله» بلغت 13 قتيلاً وعشرات الجرحى والمعتقلين. وقال مدير «المرصد» رامي عبد الرحمن إن «الشهداء توزعوا على بلدة سقبا بريف دمشق وبلدة خان شيخون في ريف إدلب، وهناك آخرون في حمص ودوما (ريف دمشق) وحي الصاخور في مدينة حلب». وأكد عبد الرحمن أن «أربعة جرحى سقطوا في مدينة دير الزور برصاص القناصة»، مشيراً إلى أن «الأجهزة الأمنية انتشرت بكثافة منذ فجر يوم أمس في أماكن عديدة من سوريا لمنع التظاهرات، وتجمعت أمام أبواب المساجد وخاصة في بانياس والزبداني». ولفت إلى أن «قوات الأمن اعتقلت عضو اتحاد الكتاب العرب بمدينة البصير في محافظة حمص عبد الرحمن عمار رهينةً بدلاً من نجله الناشط المطلوب من السلطات الأمنية السورية». وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن تظاهرات خرجت في حماه من عدة مساجد. وأضاف المرصد أن «تظاهرة ضمت نحو ثمانية آلاف شخص جرت في حي الرمل الجنوبي في اللاذقية». وتحدث كذلك عن تظاهرة في الزبداني. وقال إن «أعداداً كبيرة من الجيش والأمن حاصرت الطرق المؤدية إلى مسجد الجسر الكبير فخرجت تظاهرة من باب الجامع تهتف لإسقاط النظام ونصرة المدن المحاصرة».
من جهتها، قالت وكالة «سانا» الرسمية، إنّ «ثلاثة من عناصر حفظ النظام واثنين من المدنيين استشهدوا، فيما أصيب ضابطان بجروح، وعدد من عناصر حفظ النظام والمدنيين جراء إطلاق مسلحين النار في دوما بريف دمشق والصاخور بحلب وأريحا بريف إدلب»، مضيفةً أن «قوات حفظ النظام ردت على مصدر إطلاق النيران وتمكنت من قتل أربعة مسلحين وإلقاء القبض على عدد آخر منهم».
ووجد الكاتب والصحافي السوري المعارض فاتح جاموس، في خروج أعداد كبيرة من التظاهرات رد فعل طبيعياً واعتيادياً، قائلاً لـ«الأخبار» لأنه «سواء أخلت قوات الجيش المدن أو لم تخلِها، التظاهرات ستخرج في العديد من المدن والمحافظات، وسواء اختلفنا أو اتفقنا على مظاهر الاحتجاج والتظاهر وبنيتها وطبيعتها، أعتقد أن الحراك الشعبي قد تجاوز منذ مدة بعيدة مسألة الخوف من الجيش أو الأجهزة الأمنية ومحاولتها الدائمة إرهاب المتظاهرين والمحتجين». وعن التفاوت في أعداد المتظاهرين في بعض المناطق، وتراجع التظاهرات في بعض المناطق، يعلق جاموس بأنّ «ما يحدد بوصلة الشارع المنتفض الآن هو المصالح السياسية والاقتصادية. على سبيل المثال مدينة حلب التي تُعَدّ العاصمة الاقتصادية لسوريا، لم تخرج فيها حتى الآن تظاهرات كبرى على غرار ما حدث في بقية المدن والمحافظات، ليس بسبب القمع أو الممارسات الأمنية، بعكس مدينتي درعا وحماه». ويقرأ جاموس هذا التفاوت في حجم التظاهرات بين مختلف المناطق بأنه محكوم بفكرة تجاوز الخوف؛ لأنّ «الممارسات الأمنية التي لا يزال النظام يتعامل من خلالها مع التظاهرات، أصبحت أمراً ثانوياً تماماً، بعد تجاوز الحراك الشعبي المنتفض فكرة الخوف التي عاشها أكثر من 40 عاماً». ويضيف: «الجميع يخاف من الرصاص والموت، ويخشى على أسرته وحياته، لكن هذا لم يعد الحد الفاصل في التظاهرات، إنما الاستقطاب السياسي في الشارع ومحاولة قراءة الاستراتيجيات والتكتيكات المتعلقة بحل الأزمة، والعوامل الخارجية مثل الدور الأميركي والتركي وأخيراً الخليجي بزعامة السعودية، في مقابل النظام السوري الذي على ما يبدو سيبقى وحيداً في الساحة».
ويؤكد المعارض نفسه نجاح الشارع المنتفض خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة في حشد وتحريك السياسية العالمية على نحو متسارع جداً، لكنه لم يصل حتى اللحظة إلى إنشاء غرفة عمليات سياسية واحدة قادرة على التعبير عن نبض الشارع تعبيراً كاملاً، وتدير الأحداث والتظاهرات بحسب طبيعة وخصوصية كل مدينة أو محافظة»، معترفاً بأنّ هذا ما فسح المجال للعديد من التدخلات السياسية الخارجية التي تحاول كل جهة منها التأثير على الشارع وسحبه باتجاه تحقيق مصالح الدول التي تمثلها. وعن التصريحات التي أطلقتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون والتي تحاشت فيها الطلب من الأسد التنحي عن السلطة صراحةً، لفت جاموس إلى أن «السياسة الأميركية تحاول إعادة سيناريو العراق في ما يتعلق بالأحداث السورية، فهم ينتظرون القوى السياسية العالمية الأخرى أن تتقدم على موقفهم»، معرباً عن ثقته بأن «المصالح الأميركية أو الأوروبية لم تتحول بعد إلى نقاط ثابتة وواضحة لحلف شمالي الأطلسي». وعن عدم استصدار قرار إدانة بحق النظام السوري حتى الآن في مجلس الأمن الدولي، يرى أن «جميع الدول الحليفة للنظام السوري التي لوحت بحق النقض ضد أي قرار يدين دمشق، لا تزال تبحث عن تحقيق مصالح سياسية واقتصادية ثمناً للتنازل عن موقفها هذا»، محذراً من أن سيناريوات متعددة للتدخل العسكري موضوعة للمناقشة حالياً لكنها «تبحث عن شروط داخلية وخارجية لتنفيذها».
وفي السياق، يتوقع جاموس أن يشهد الأسبوعان المقبلان، وهما المهلة التي قدمتها أنقرة للنظام السوري لتحقيق جملة الإصلاحات السياسية التي وعد بها، تصعيداً غير مسبوق و«ارتفاعاً كبيراً في وتيرة التدخلات السياسية من مختلف الأطراف العربية والخليجية والأوروبية والأميركية والتركية خصوصاً». تصعيد لا يستبعد المعارض اليساري أن يأتي «بصور مختلفة من البيانات والعقوبات الاقتصادية، وصولاً إلى التدخل العسكري الذي نخشاه جميعاً؛ لأنه لن يكون في مصلحة أحد».
وبعكس مجمل المعارضين السوريين، يجزم أستاذ العلاقات الدولية في جامعة دمشق، بسام أبو عبد الله، المعروف بموالاته للنظام، بأن هناك «مبالغة كبرى في تعامل مجمل الفضائيات ووسائل الإعلام العربية والغربية، مع حجم التظاهرات والاحتجاجات في الشارع السوري». ويؤكد أن «القضاء على جميع الجماعات الإرهابية المسلحة في المناطق التي دخلها الجيش وجّه ضربة قوية إلى المؤامرة الخارجية التي تحوكها أطراف مختلفة ضد سوريا، وهو ما أفقد صناع المؤامرة أوراقاً كثيرة».
وعن «المهلة» التركية، يرى أبو عبد الله أنها «محاولة لحفظ ماء الوجه بعد الردّ الحازم الذي أعطاه الرئيس الأسد، وهذا ما يفسّر التصعيد الأميركي المرتبط بالمصالح التركية التي لا ترتبط بالإصلاحات ولا بحقوق الإنسان ولا بالديموقراطية». وعن احتمال توجه الأزمة السورية نحو التدخل العسكري المحتمل، يذكّر أبو عبد الله بأن «الضربة العسكرية تحتاج إلى قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، وحتى الآن لا تزال الصين والهند وروسيا غير مستعدة للإضرار بمصالحها من أجل المصالح الأميركية.



عبدلكي يتوقّع «شلّالاً من الدماء»

وضع الفنان التشكيلي السوري المعارض، يوسف عبدلكي (الصورة)، ما أشاعه الإعلام الرسمي السوري عن انسحاب وحدات الجيش من بعض المدن والمناطق السورية في خانة «المحاولة اليائسة لكسب بعض الوقت ليس أكثر، وما أشيع عن مدة الأسبوعين التي منحتها أنقرة للنظام السوري ما هو إلا مادة إعلامية لا تمتلك أية قيمة حقيقية على أرض الواقع». ورأى المعارض السوري أن الممارسات القمعية التي تتعامل بها السلطة مع الشارع «لم تعد مجدية أمام شعب اعتاد هذه الأساليب القمعية»، متوقعاً خروج تظاهرات كبيرة في الأيام القليلة المقبلة والمزيد من القمع والتصعيد في الممارسات الأمنية». لا يعترف عبدلكي بأهمية مجمل الحراك السياسي الدولي، ويحمّل النظام مسؤولية ما ستؤول إليه الأمور «بعدما رفض العديد من الطروحات وأوراق العمل التي قدمت له»، معرباً عن تشاؤمه؛ لأن «هذا النظام سيقودنا حتماً نحو شلال من الدماء».