الرمادي | بانتظار إدخاله لمقابلة شيخ عشيرته، يتحدث أحد شيوخ الأفخاذ عن رأيه بصراحة ولوعة: «فلنقسم العراق ولنسترح». ثم يشرح «نحن قاتلنا تنظيم القاعدة، ونحن طردناه من مناطقنا ومن بغداد، وكانت الوعود بالحصول على وظائف في الدولة، والنتيجة أن الوظائف الموعودة كانت كنس الشوارع».
الرأي القائل بأن تقسيم العراق هو الحل الأمثل ليس الغالب في العراق بين السنة، إذ إن غالبية من تلتقيهم من مواطنين وأبناء عشائر ومسؤولين شعبيين لا يوافقون جهاراً ولا همساً على فكرة التقسيم، وهم ينظرون الى كردستان والموافقات التي يطلبها الاقليم لدخول العرب الى أراضي الأكراد بصفته «حالة شاذة ومستهجنة»، ولا يريدون لمناطقهم أن تكون مشابهة، أو حتى أن تُغلق بوجه المناطق الأخرى، علماً أن عدداً من المحافظات السنية مختلطة مع الشيعة، وتقسيمها يقتضي إجراء فرز طائفي أو تعديل في خريطتها، وهو ما كانت خطة عمل تنظيم «القاعدة» في العراق تفي به لولا أنها توقفت بصفقة خارجية وتخلٍ داخلي عنها من بيئتها الحاضنة.
الأنبار هي المحافظة الغربية بين بغداد وبين سوريا، وهي تمتد حدودياً على طرف سوريا، وشكلت في الماضي إحدى ركائز تنظيم القاعدة. وبعد العام 2003، قامت في «عاصمتها»، الرمادي، ومحيطها حركة مقاومة قادها رجال الجيش العراقي السابق بنحو رئيسي والعديد من رجال العشائر وأطراف سياسية متنوعة، وشارك فيها زعماء العشائر الرافضون لما آلت إليه الأوضاع بعدما كان صدام حسين قد أعطاهم شيئاً من الاستقلالية الذاتية في التصرف بشؤون عشائرهم. شيء ما أعاد التاريخ إلى لحظة الاحتلال البريطاني عام 1920، حين قرر الشيعة رفض الغبن اللاحق بهم جراء الاحتلال، من خلال رفض التعامل معه، وظلوا خارج السلطة مقاومين إياها بعدة أشكال.
عام 2003، رمي السنة بتهمة الصدامية، فقاموا برد الفعل الطبيعي ضد الاحتلال، وعملوا على مقاومته ورفض الانخراط في مؤسسات الدولة أو بالاحرى في ما يسمى هنا «العملية السياسية»، واحتضنوا الجهاد الذي لم يكن قاعدياً بعد، بل عبارة عن مقاتلين عراقيين وبعض العرب الفارين من بغداد بعد الانهيار، والعشرات من المقاتلين العرب والاجانب القادمين من كل فج عميق لمواجهة الاميركيين المحتلين.
ولكون هذه المحافظة تتاخم أغلب الحدود السورية الطويلة، كان من الطبيعي أن تشكل ممراً ومحطة رئيسية للمقاتلين العرب القادمين من سوريا عبر خطوط التهريب، وخاصة بعدما تعاونت الحكومة السورية في اغلاق الحدود ومراقبتها استجابةً للضغوط الأميركية.
لكن قبلها، مثّل مطار عليا الأردني أيضاً ممراً للمقاتلين الاجانب، خاصة في الفترة الاولى من السقوط. الحدود الاردنية ـــــ العراقية لم تكن محببة للمقاتلين نظراً إلى طول المسافة التي عليهم قطعها قبل الوصول الى المناطق السنية المستهدفة، وكذلك لتشدُّد أجهزة الاستخبارات الاردنية المختلفة على حدودها البرية، واعتقال المقاتلين وتحويل وجهتهم الى اماكن اخرى. كذلك شكلت الحدود العراقية ـــــ التركية عائقاً، خاصة في ناحية سيطرة الأكراد عليها، وكانت الحدود الايرانية صعبة المسالك للمقاتلين الذين يعبرونها تهريباً آتين من أفغانستان أو باكستان، وإن ظلت الممر الرئيسي للقيادات القاعدية. هكذا، بقيت الحدود السورية هي الأسهل بالنسبة إلى المقاتلين الأجانب.
في آذار 2004، باتت نواحي الرمادي في محفاظة الأنبار، وخاصة الفلوجة، التي تقع في منتصف الطريق بين بغداد والرمادي، شوكة في خاصرة القوات الأميركية: إسقاط مروحيات، تفجير دوريات، عمليات خاطفة على مواقع، بلغت ذروتها يوم 31 آذار من العام نفسه، حين قُتل أربعة من مرتزقة شركة «بلاك ووتر» الأميركية، وانقضّ عليهم مواطنون من الفلوجة فسحلوهم وعلقوهم على أعمدة جسر على مدخل الفلوجة.
حرب طاحنة شنها الأميركيون لتأديب الفلوجة، انتهت بانتصار ابناء المدينة، ثم ُشنت حرب أخرى في تشرين الثاني من العام نفسه، واستخدم فيها الغاز والفسفور الابيض، وغيرها من وسائل القتال المحرمة، وتم تدمير الفلوجة. وفي كلا المعركتين، كانت الولايات المتحدة تتحدث عن مواجهة تنظيم القاعدة، إلا أن المقاتلين في تلك المعارك يقولون إن شباناً عرباً ساندوهم، لكن أبناء المدينة وضباط الجيش السابق هم من قاموا بمواجهة الاميركيين (وهو موضوع حلقة مقبلة)، وحينها لم تكن في المنطقة قوات لتنظيم القاعدة، إذ إنها انتشرت بعد المعركة الأولى. وعلى أثر ذلك وما شاهده السكان من فظاعة الاعمال الاميركية، أصبح الترحيب بمقاتلي «القاعدة» طبيعياً، وصار تلقائياً أن ينخرط أبناء المنطقة في التنظيم، وأن يبايع أبناء العشائر وشيوخها امراءه القادمين من خارج الحدود.
ومع نهاية عام 2004، كان «القاعدة» قد أمسك بالأنبار إلى جانب محافظات عراقية اخرى، ومَن لم يقدم البيعة طوعاً من شيوخ العشائر، جرى ترغيبه وترهيبه، أو ببساطة قتله. مع انتشار التنظيم الدولي كانت تنتشر أخطاؤه ايضاً. التشدد حد الافراط والمبالغة في تطبيق الشريعة، العقوبة الوحيدة لكل من يخطئ هي القتل. استسهال مفرط في سفك الدماء، مرفق بعدم احترام لتقاليد العشائر، وتجاهل مصالح ومكانة شيوخها.
رفض «القاعدة» التحالف مع القوى الاخرى، وفرض نفسه قطباً وحيداً، متسلحاً بالمال الذي كان يأتيه من الخارج في البداية، ومن أساليب تمويل داخلية لاحقاً. حاول التنظيم الدولي تدمير المجموعات المقاومة الاخرى على الساحة السنية بالحديد والنار، وقطع رؤوس قادتها، واغتال الضباط السابقين في الجيش العراقي، وصفّى حتى الكوادر المتعلمة في كل المناطق التي سيطر عليها.
وفي بعض التقارير الامنية العراقية السرية، تجد إشارات إلى تحالفات ما بين «كتائب ثورة العشرين» و«كتائب الناصر صلاح الدين» وضباط الجيش العراقي السابق وغيرها من قوى المقاومة من جهة، وبين «القاعدة» من جهة أخرى. لكن يتبين من البحث الميداني أن هذه التقارير الامنية رصدت انشقاقات حصلت داخل هذه القوى أدت الى التحاق مجموعات منها بالتنظيم القاعدي. نسي أبناء العشائر في الأنبار استخدام الولايات المتحدة لقاذفات القنابل من طراز B-52 في حرب الفلوجة الثانية، وسحل جثث قتلاهم خلف الدبابات، والإجهاز على الجرحى، كان ثمة شيء آخر يشغلهم في تلك الفترة: شبان تنظيم القاعدة، العراقيون وبقيادة الغرباء، الذين يتسببون في إلحاق الاذى بالعشائر. أصبح لهؤلاء نفوذ مهيمن على حياتهم، وبات بعض صغار القوم يتطاولون على الشيوخ.
في تلك الفترة، وخاصة ما بين 2005 و2006، أصبح الدم العراقي رخيصاً. في مرحلة ما بعد السقوط في العام 2003، لم تشهد نواحي الرمادي نهباً مثلما حصل في بغداد، وبعدها كان انتشار العصابات وأعمال النهب ضعيف نسبياً، بينما كانت حركة المقاومة لافتة: إسقاط مروحيات وقتل جنود أميركيين يحصل بشكل مطرد.
ولاحقاً، انفلتت الأمور من عقالها: الحدود مع سوريا تشهد قدوماً وذهاباً كل من «هب ودب»؛ الأميركيون يطاردون «القاعدة» بأيدي الشرطة والجيش العراقيين (الحرس الوطني كما كان يُسمى)؛ «القاعدة» يتدرب في نواحي سوريا (دير الزور) كما في صحراء الانبار؛ أهالي المنطقة يتهمون ايران بدعم «القاعدة» بالتنسيق مع الاميركيين لقتل العراقيين السنة وإضعاف مواقعهم، والعراقيون السنة يرفضون الدخول في «العملية السياسية» المليئة بالفساد، والتي يعامل أطرافها، العرب السنة باحتقار وكيدية. أما الأكراد، فمتهمون بالمشاركة في معارك الفلوجة الى جانب الاميركيين، والشيعة قاتلوا مرة مع الفلوجة في حربها الاولى، قبل أن يتم تسليم هؤلاء إلى الأميركيين قبيل الحرب الثانية، وأعمال النهب للمرافق العامة ورجال الاعمال والمال والممتلكات فعل يومي.
اليوم، حين تلتقي شيوخ العشائر، يؤكدون لك أن ضعفاء النفوس وحدهم تبعوا «القاعدة»، وأن شباب العشائر لم يشاركوا في اعمالها، وأن احداً من شيوخ العشائر (الا في ما ندر) لم يبايعوا «القاعدة» وامرائها. وحين تبحث، لا تجد إلا التنصُّل، فيصبح «القاعدة» في الأنبار من دون قاعديين.

العوام والخواص

غير أن الواقع مختلف؛ حين دخل «القاعدة» على خط مساندة السكان المحليين في حربهم الاولى في الفلوجة، لقي استحساناً بالفعل، لا بل استقبله السكان وأبناء العشائر، وبقي بعض الشيوخ فقط حذرين من التنظيم المغلَق وأجهزته الثلاثة الغامضة: الجهاز الشرعي، والجهاز الامني، والجهاز القتالي العسكري.
معظم العشائر قدّموا البيعة، وانضم شبانهم إلى «القاعدة» وتسلحوا بسلاحها. ولكن، على غرار خطط التنظيم في مناطق اخرى في العراق كمحافظة ديالى، بدأ القتال يتركز على «الذين يلون المسلمين من الكفار» (بمعنى البدء بتصفية الأقربين من الكفار بحسب النص «وقاتلوا الذين يلونكم من الكفار»). صار الفصل بين «العوام»، وهم المقاتلون المسلمون المؤيدون للتنظيم، وبين «الخواص»، وهم جسم التنظيم، والفصل ما بين الخواص من المهاجرين القادمين من خلف الحدود، والخواص من أبناء البلد.
بدأ التململ يأخذ مداه، ثم شرع «القاعدة» بتصفية من يعترض. انتشرت مطبوعات باسم «ثوار الأنبار» تدعو أهل المنطقة الى الانتفاض على «القاعدة» منذ نهاية عام 2006. في تلك الفترة، بدأت ايضاً العمليات الاميركية تعتمد خطة الجنرال الاميركي دايفيد بيترايوس، القاضية بالانسحاب التدريجي من العراق، مع مراضاة واستمالة اهالي العشائر، وتشكيل قوات عراقية غير نظامية منهم، وظهرت «الصحوات» في وقت لاحق، وكالعادة تحوّل التمويل السعودي إلى «الصحوات» بعدما كان يصب في مصلحة معظم الاجنحة القاعدية.
أُغدقت الوعود بإشراك السنّة في العملية السياسية، وإعطاء أبناء المناطق وظائف في الدولة، وانخراطهم في القوى المسلحة النظامية، كلّ بحسب مستواه التعليمي، وبالعفو عمن «لم تتلوث يداه بدم العراقيين»، واستوعبت مجالس الصحوات تنظيم «القاعدة»، أو بالاحرى تحولت العديد من العشائر من القاعدة الى «الصحوات»، بينما بقي العديد من الشبان مخلصين للفكر الذي اعتنقوه.
دارت معارك في العام 2007 استمرت 48 يوماً بين الطرفين. تم طرد «القاعدة» من المراكز الرئيسية في الانبار، واستكلمت العشائر نفسها المعارك في جنوب بغداد خاصة في الضواحي والمناطق التي تمكن التنظيم الاسلامي من إسقاطها عسكرياً. بعد جلاء الامور، نسيت كل الوعود، وعرض على محامين أعمال جمع النفايات، واستُوعب من بين مئات من المقاتلين في «الصحوات» أفراد يعدون على اليد الواحدة في الحرس الوطني والشرطة. هذا ما يصرح به شيوخ العشائر في الانبار.
يوم منتصف شعبان، كان أحد شيوخ العشائر يراجع قائمة من المعتقلين قبل فترة قصيرة: «الليلة الماضية اعتقل عشرة من مرافقي أحد قادة الصحوات اتُّهموا بالانتماء للقاعدة، وهم من المقاتلين ضد القاعدة منذ العام 2007». وفي مكان آخر، يقول أمير شيوخ العشائر في الانبار إن سبعة من قادة «الصحوات» زُج في السجن في الشهر الجاري بتهمة الانتماء لـ «القاعدة».
توقف القتال الفعلي في الانبار، وتوقفت عمليات القتل الكبرى، لكن لا تزال بعض العمليات تحصل بين حين وآخر. ومثل باقي المناطق، فإن العمليات اليوم تأخذ طابعاً أمنياً ومحدوداً، ونشاط تنظيم القاعدة عاد إلى شكله السري، وتعيد قيادة هذا التنظيم في المحافظة مراجعة أعمالها ودراسة واقعها. بينما يعيش خصومها ومن تخلّوا عنها من شيوخ عشائر وأفخاذ، وقادة «صحوات»، في ظل تدابير امنية مشددة مخافة أن تطيحهم عبوات أو تصلهم رصاصات كاتم الصوت.
بخلاف ما يعتقد البعض من أن «القاعدة» في العراق معزول كلياً عن محيطه السياسي، فهو يقوم بلقاءات سرية مع وسطاء يشكلون خيطاً رابطاً بينه وبين المشاركين في «العملية السياسية» في البلاد. حتى إن شيوخ عشائر في الانبار ينفون أن تكون الكثير من أعمال القتل والتفجيرات العشوائية التي طاولت مناطق في بغداد وجنوب المحافظة ومناطق شيعية لـ «القاعدة» مرتبطة به، بل يتهمون السياسيين في بغداد بارتكابها، إذ إن هؤلاء، وبحسب شيوخ العشائر، «يعتاشون من الطائفية، ويبنون مواقعهم من قتل المدنيين في الشوارع».
سيعود تنظيم القاعدة، يقول أمير شيوخ العشائر في الانبار. سيعود بفضل الفساد الاداري والسياسي، وبفضل السياسات الحكومية، لكنه هذه المرة سيعود أقوى، وهو قد غيّر بالفعل من خططه وأسلوب عمله. وحين يعود، لن يتعرض للسكان، ولن يسعى الى السيطرة، بل سيحافظ على علاقات طيبة مع المواطنين الذين عادوا يعانون اليوم قلة المال وشح الوظائف وظلم الدولة ونكران الوعود.



صحوات وخيبات

في نهاية عام 2006، انشق عشرات الآلاف من المقاتلين العراقيين عن تنظيم «القاعدة». كانت التسوية قد تمت، وبدأت عمليات المواجهة من دون مسمى في البداية، ثم اختير لها اسم «الصحوات» إثر اجتماع لشيوخ العشائر وقرارهم الرسمي بالمشاركة. موّلت الولايات المتحدة «الصحوات»، وأعطتها السلاح الخفيف فقط. لكن الجيش الاميركي كان يطلق النار على مقاتلي «الصحوات» بحال شوهد معهم رشاشات متوسطة أو اكثر من الرشاشات الفردية الهجومية، وكان شباب «الصحوات» يطلقون النيران على الاميركيين لأسباب شتى، ودائماً بعلة غياب التنسيق، والخوف من تنكُّر مقاتلي «القاعدة» بثياب الجيش الاميركي. أغلقت سوريا حدودها امام المقاتلين العرب الآتين لنصرة «القاعدة»، ووصل مئات من المقاتلين الى لبنان، وانتشروا في مخيمي البداوي ونهر البارد الشماليين في نهاية 2006، وما لبثوا أن تجمعوا في «البارد»، ثم وقعت الواقعة مع القوى الامنية اللبنانية. وافقت السعودية على تجفيف تمويل تنظيم القاعدة في العراق، وساعدت الولايات المتحدة في هذه المعركة، ودفعت القليل من الاموال لمصلحة «الصحوات». ولكن، حتى اللحظة، فإن الطرف القوى داخل الصحوات هو «القاعدة».