«لن يتخلى عرب فلسطين عن أرضهم من دون عنف»، كان أحد قادة الحركة الصهيونية وهو فلاديمير جابوتنسكي قد نظّر لهذا الفهم سابقاً (مذكرة «الجدار الحديدي»، مقالة «نحن والعرب»). من هنا مثلاً، يمكن فهم أين تبدأ جذور خطاب الكراهية، وكيف لها أن تجد أرضاً خصبة في نفوس الصهاينة الأوائل، كي تخرج فعلاً من التنظير إلى التطبيق.
أخيراً، وفي أعقاب إضرام النار في منزل عائلة دوابشة واستشهاد رضيعها عليّ، ثم والده بعده بأيام، نشر إعلام العدو تقارير عديدة، يُستنبط منها أن هناك «تمثيلية» تقوم بها حكومة العدو وجهاز أمنها، في محاولة بائسة لتحويل مسار الإرهاب الممارس ضد الفلسطينيين، إلى إرهاب يمارس بحقها كسلطة «ديموقراطية» لا تلقى إعجاباً لدى مواطنيها من المستوطنين، الذين «يحضرون لانقلاب في السلطة من أجل تحقيق نظام حكم جديد يستند إلى الشريعة اليهودية».
لكنْ ثمة طرف خيط يقودنا إلى عكس هذه النتيجة. يمكن تلمسه مما كشفت عنه القناة العاشرة الإسرائيلية، استناداً إلى تقرير لوزارة المالية. التقرير يفيد بأن هناك جمعية استيطانية باسم «حنينو» تمول الجماعات الإرهابية، كـ«فتية التلال» و«تمرد» و«جباية الثمن». و«المالية»، وفق القناة، على علم بأنشطة «حنينو»، بل إن الحكومة الإسرائيلية تدعم بطريقة التفافية هذه الجمعية عبر إعفاءات من الضرائب وبعض التسهيلات الأخرى. فكيف، إذاً، تدعم السلطة من يحاول الانقلاب عليها؟
جاء في التقرير أن «حنينو» تدفع أموالاً لإرهابيين اتهموا بارتكاب جرائم بحق الفلسطينيين، وهي أنفقت أكثر من نصف مليون دولار في العام الماضي لتمويل إرهابيين داخل السجون (تغطية احتياجاتهم)، ونحو 150 ألف دولار على محامين سخرتهم للدفاع عن المتهمين. كما كافأت واحداً من المستوطنين الذين اعتدوا على فلسطينيين بمبلغ 58823 دولاراً، ووهبت مستوطناً آخر قتل سبعة فلسطينين عام 1990 ثلاثين ألفاً.

يرفض «الشاباك» اعتبار
تشكيلات المستوطنين
منظمات إرهابية


لا تنتهي هذه «التمثيلية» عند حدود الحكومة أو وزارة الماليّة التابعة لها، فالجيش أيضاً أحد أبطالها. قبل بضعة أيام من حرق العائلة، استولى مستوطنون على جزء من معسكر مهجور لجيش العدو، يقع بالقرب من رام الله المحتلة، وأقاموا فيه مستوطنة «ملاخي شالوم»؛ وبينما كان الجيش يصف ما جرى بأنه «غزو غير قانوني لمنطقة عسكرية»، فإنه كان يمد «ملاخي شالوم» بالماء والكهرباء!

«الشاباك يدعم... وعلى عينك يا تاجر»

قصة واحدة لم تخرج إلى الإعلام تكشف وجهاً آخر للقضية. الشاب محمد منصور (مجد الكروم، الجليل الأعلى) تعرض لاعتداء وحشي نفذه عشرة شبان يهود ضده. يروي منصور ما حدث وهو يمرر إصبعه فوق الندبة الطويلة على رأسه. الندبة التي خلفها الاعتداء وتذكره دوماً بأن هويته العربية كافية لتكون سبب إدانة كيفما تحرك. يقول: «أنهيت دوام عملي في الفندق المطل على بحيرة طبريا، وكعادتي توجهت للتنزه على ضفاف البحيرة»، قبل أن يستدرك: «اعترضني عشرة شبان يهود، سألني أحدهم إن كنت عربياً، فأجبت بأنني كذلك، ثم سألني آخر ما الذي أفعله في أرضه، هممت بالإجابة، ولكن العصي انهالت فوقي فأشعرتني بدوار غريب، ثم سقطت أرضاً».
اعترف المعتدون خلال التحقيق معهم لدى جهاز «الشاباك» بأنهم فعلوا ذلك بدوافع عنصرية، وبناءً على خلفية «قومية»، وأنهم دأبوا على مراقبة منصور يومياً، ما يعني أن محاولة القتل كانت عن سابق إصرار وترصد. كذلك رصدت كاميرا للمراقبة وُضعت في مكان الجريمة ما حدث بالتفصيل. مع هذا، فإن العقوبة كانت «مسخرة» كما يقول منصور: «ثلاثة أشهر خدمة مدنية لكل منهم... أليس هذا دعماً لهم وعلى عينك يا تاجر؟».
لا تختلف حادثة منصور كثيراً عن عماد شرخ (اللد)، الذي كان عائداً إلى بيته بعدما أدى صلاة الفجر في المسجد. في الطريق، استوقفه ثلاثة شبان يتحدثون العبرية بطلاقة ويحملون الهراوات، وعندما سألوه عن هويته وأجابهم بأنه عربي، انهالوا عليه بالعصي. في حادثة الاعتداء على شرخ، التي لم يكتمل أسبوع على مرورها بعد، حاول «الشاباك» حرف القضية ونسب الاعتداء إلى وجود خلافات شخصية بين شرخ والمعتدين، وهو الأمر الذي ينفيه الشاب بالمطلق.

القلق ليس من «تمرد»

على ما يبدو، فإن هناك حالة من «القلق» ترخي ظلالها على حكومة العدو وأجهزته الأمنية. بالتأكيد ليس بسبب مجموعة من «الأولاد» يحاولون «إحداث انقلاب في السلطة وإرساء التعاليم التوراتية» ــ المجموعة التي سميت بـ«تمرد» ــ وإنما الخوف من استشهاد بقية أفراد عائلة الدوابشة. أمرٌ يمكن أن يفجر الأوضاع في الضفة والقدس وفق تقديرهم. لهذا السبب بالتحديد، سارع المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، يهودا فاينشطاين، إلى المصادقة على طلب «الشاباك» اعتقال عناصر يمينية متطرفة، لظنهم أن ذلك يمكن أن يُهدئ الأوضاع.
الآن، صار ما تحاول «إسرائيل» أن تقوله في العلن هو أن العدالة تأخذ مجراها، وأنها باتت مستهدفة «كسلطة تؤخر الخلاص»، على أيدي مجموعات يهودية أيديولوجية تعتقد أن قوانين الدولة غير ملزمة، وأنها محكومة بما هو أسمى (قوانين أزلية ــ توراتية). للحظة ما، تكاد إسرائيل أن تقنع الآخر بأنها ستمسك البندقية إلى جانب «الرفاق الفلسطينيين» وتوجهها ضد المستوطنين المتطرفين!
ومع أن مصادقة فاينشطاين على أمر اعتقال كل من: مردخاي مئير وأفيتار سلونيم ومئير إيتنغر، المتهمين بحرق مقدسات مسيحية وإسلامية وتنفيذ عمليات ضد الفلسطينيين، تأتي في خدمة هذا السياق، فإن صور المعتقلين الضاحكين بإمكانها، وحدها، أن تدحض ذلك قطعاً.
إيتنغر (23 عاماً) الذي راجت قصته في الإعلام، وهو حفيد «الراف» (الحاخام) المتطرف مئير كاهانا، يرى أن «الشاباك» يعيش في ضائقة، كونه يتهمه بأنه الزعيم الأيديولوجي لتنظيم يهودي يطلق على نفسه اسم «تمرد». ويقول إن «الشاباك» لا يستطيع حتى اللحظة أن يعترف كجهاز أمن، بأن القضية التي يعالجها لم تصدر من تنظيم وإنما من الشارع، بل من «المفاهيم الشعبية البسيطة التي تدفع الناس إلى الشعور بأنهم يجب أن يفعلوا شيئاً أمام هدم مبان في المستوطنات»، إضافة إلى ما وصفه إيتنغر في مدونة «هكول هيهودي» بأنه «خطيئة كبرى»، في إشارة إلى سماح إسرائيل لصوت أجراس الكنائس وتكبيرات المساجد بأن تختلط مع الصلوات التوراتية.
وبرغم أن إيتنغر لا يزال قيد الاعتقال حتى كتابة النص، فإن السيناريو بات معروفاً: سيُرفض اعتقاله إدارياً، وفي أصعب الظروف سيجري إبعاده إلى صفد، حيث معقل التطرف والعنصرية في الجليل الأعلى.
المؤكد أن من يراقب تصرفات «الشاباك» يدرك أن هناك من «يتمنع وهو راغب»، وخير دليل على ذلك رفض الجهاز الأمني اعتبار «ليهافا» و«فتية التلال» و«تدفيع الثمن» و«تمرد» منظمات إرهابية، ما يعني أن «الشاباك» الذي يعتقل بعض أفراد هذه المنظمات، يرفض فكرة الحجز على أملاك نشطائها والتحقيق معهم بحزم، لأنه في حال الإقرار بأن هذه منظمات محظورة يمكن أن يطبق عليها القانون بصورة حازمة، لكن ما يحدث هو عكس ذلك تماماً.
أكثر من ذلك، فحين يبتسم إيتنغر من قاعة المحكمة، ويعبّر رئيس منظمة «ليهافا» (ترفض فكرة الاختلاط مع العرب)، بنتسي غوبشطاين، بـ«نعم» رداً على سؤال صحافي من جريدة «ييتد نئمان» خلال ندوة في أحد المعاهد الدينية في القدس قبل بضعة أيام، وفيه سأل الصحافي هل يؤيد غوبشطاين حرق المقدسات، وقد صورته الكاميرات بالصوت والصورة وهو يجيب تلك الإجابة. ما يعني أن ذلك دليل قاطع لإدانة هذا الرجل الذي يستمد أفكاره من كاهانا عن تأييده حرق المقدسات علناً، على غرار سلفه الرمبام الراف موشيه بن ميمون، وهي دليل أيضاً لاعتبار «ليهافا» التي يتزعمها منظمة إرهابية... بعد كل ذلك ينطق «الشاباك» ــ قبل بضعة أيام ــ بأنه لا يملك أدلة تسمح بالإعلان عن «ليهافا» منظمة إرهابية!




أين وصلت قضية حرق أبو خضير؟

سيعتبر القاتل «مجنوناً» ولن يرفع عليه القلم، هذا ما قاله والد الشهيد محمد أبو خضير (القدس المحتلة) قبل بضعة أيام، حينما سُئل أين وصلت قضية ابنه الذي أحرقه مستوطنون قبل عام بعد اختطافه وقتله. آخر جلسة عقدت في هذه القضية كانت في منتصف تموز الماضي، وحاول فيها الوالد الاعتراض على ما قاله الجناة، وخاصة أن كبير المتهمين في القضية كان يمثل دور «المجنون» وكان يجيب في كل مرة بأنه لا يفهم ما يقوله القاضي. لكن المحكمة ألزمت أبو خضير الصمت.
تتوقع العائلة أن تقضي المحكمة الإسرائيلية ببراءة القتلة كنتيجة لـ16 جلسة عقدت «بصورة هزلية». مرة تكون الحجة بأنه لا إمكانية للتواصل مع محامي القتلة، وأخرى بأن أحد القتلة يعاني المرض، مع أن «المستوطنين قالوا في جلسات محاكمتهم: أحرقناه (الفتى أبو خضير ليتطاير رماده في جبال القدس». والآن تنتظر العائلة حتى الثاني والعشرين من تشرين الأول المقبل كي يروا إلى أين ستصل القضية.
(الأخبار)