بعد عدة أعوام من التقشف الممنهج والـ"تململ" المتواصل تجاه مساعدة اللاجئين الفلسطينيين، سواء القادمون من سوريا أو الموجودون في مخيمات لبنان والأردن، ها هي وكالة الأونروا "تبق البحصة" ـ وأخيراً ـ وتظهر وجهها الحقيقي عبر إعلانها نية توقيف مساعداتها المختلفة بنحو كلي وجدي، ما يعني حرمان أهلنا في المخيمات "الحكمة"، أي العيادة الطبية، و"الإعاشة"، أي الحصص الغذائية التي تعطى للأشخاص المحتاجين، التعليم والخدمات الجانبية الأخرى، مثل ترميم بيوت متضررة جداً ومنح قروض صغيرة (ألف إلى ثلاثة آلاف دولار) لبدء مشروع جديد في المخيمات كفتح دكان.
لا يعني الناس في المخيم أن يعرفوا السبب الكامن وراء اتخاذ هذه القوانين، ولا يصدقون أن الأونروا تعاني من أزمات مالية صعبة، ومهما حاول العالم شرح المشكلة لهم، فلن يستوعبوا أن "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"، أي الأونروا، لن تقوم بغوثهم وتشغيلهم بعد اليوم! الوكالة التي وُجدت لتوفير أساسيات الحياة لشعب لا حقوق له خارج أرضه، لن تفعل ذلك بعد الآن. صحيح أنها لم تصرّح للحظة بانتهاء كل شيء "رسمياً"، إلا أنها لمّحت بالكثير من المصائب، أهمها "تأخير بدء السنة الدراسية لعام 2016"، حتى إيجاد حل للأزمة. لم يخطر ببالي حين سمعت الخبر سوى الراحل أحمد فؤاد نجم وهو يكرر "زغلطي يا بهية على القوانين".
كان هذا التصريح كافياً لنشر بذور الرعب في قلوب أهالي المخيمات، فما كان منهم إلا أن اعترضوا على هذه القرارات، واعتصموا أمام عيادة الأونروا أولاً، ثم تظاهروا أمام المبنى الرئيسي للوكالة في بيروت، مطالبين بالتراجع عن هذه الإجراءات. أن يخاف الناس على مستقبل أولادهم التعليمي، فهذا أمر طبيعي للغاية، فمعظم الفلسطينيين ـ منذ النكبة حتى اليوم ـ تعلموا في مدارس الأونروا المجانية من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية. لكن رب ضارة نافعة. تعالوا نتخيل أنفسنا من دون الأونروا، وماذا سيحصل لنا عند توقيف خدماتها رسمياً؟
لا شك أن مدارس الأونروا قبل خمسة عشر عاماً، كانت من أهم المدارس التي تخرّج طلاباً متفوقين على صعيد البلد ككل. لكنها منذ سنوات بدأت تتراجع بنحو ملحوظ، وبدأ يتدنى مستواها في وقت قصير، حتى تحولت إلى ما يشبه السجن بنظر كثير من الطلاب. فمدرسة القدس (في منطقة برج البراجنة) على سبيل المثال، من أكثر المدارس التي يتسرب منها الطلاب، يهربون منها مع بداية العام الدراسي، حتى يكتشف الأهل في ما بعد أن أولادهم لم يحضروا السنة بأكملها. ليست "القدس" المثال الوحيد هنا، لكن الأسباب وراء هذا التراجع التربوي والأخلاقي تتنوع. لدينا أساتذة ومعلمون يتقاضون معاشات جيدة جداً، وضمانات صحية ونهاية خدمة/تقاعد، بينما تجدهم يقدمون أقل القليل للطلاب. بالإضافة إلى أنها مجانية، يدفع ذلك بعض الناس الى التعامل مع الموضوع باستهتار تجاه نتائج أولادهم المدرسية، معوّلين على قوانين أقرتها الأونروا حديثاً هدفها الوحيد، برأيي، السير بنا إلى الهلاك، كنظام الترفيع الآلي. يقضي هذا النظام بترفيع الطالب آلياً من الصف الذي هو فيه إلى الصف التالي، حتى وإن لم ينجح الطالب آخر العام. ومن المهم الإشارة إلى حقيقة أن نظام الترفيع الآلي يطبق كأولوية في المرحلة الابتدائية. ماذا يعني ذلك؟ أن الطفل سيتعود، منذ عامه الدراسي الأول في المدرسة، أنه إن لم يدرس بجهد ولم يحصّل علامات النجاح، فلا خوف عليه ولا همّ، لأنه سيترفّع إلى الصف التالي آلياً!
ماذا سيحصل إذا ما أغلقت عيادات الأونروا؟ للحقيقة، لطالما تمنينا في السر لربما، إغلاق هذه العيادات التي تفتقر إلى المقومات الصحية الأساسية. معظم الأدوية غير متوافرة، المكان يفتقر إلى المعدات والتعقيم اللازم، بالإضافة إلى الأطباء الذين يتقاضون أجوراً مرتفعة، ربما أقلها ألف وخمسمئة دولار أميركي (وترتفع لطبيب الأسنان إلى ما يقارب ألفين وخمسمئة، من ضمنها الضمان الصحي والتقاعد وغيرها). "صحتين على قلبهم بس يشتغلوا"، هذا أبسط ما يقال عن غالبية الأطباء والممرضين الذين يعملون في عيادات الأونروا. كتجربة شخصية، أذكر آخر مرة زرت فيها العيادة وطبيب الأسنان عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري. أذكر تلك الزيارة جيداً لأنني اضطررت بعد يومين إلى الذهاب إلى عيادة خاصة بسبب الألم الذي لحق بضرسي، وعلمت في ما بعد أن طبيب الأونروا الذي عالج ضرسي وضع حشوة/معجونة فوق التسوس، ما أدى إلى ورم مؤلم. لننسَ أطباء الأسنان فيها. ماذا عن الأطباء الآخرين؟ في كل مرة كنت أزور العيادة في ظروف صحية مختلفة، كنت أعود إلى البيت مع ظرف بنادول! أعتقد أن شعبنا أدمن حبوب البنادول.
وماذا بشأن الخدمات الاجتماعية كترميم البيوت المتضررة؟ هذه مصيبة أكبر، وحده الله يعلم إلى ماذا يستند المسؤولون عن هذا الملف في تحديد أي البيوت التي سترمم على حساب الوكالة، وأيها ليس بحاجة إلى هذه المساعدة. أعتقد أن معرفة شخصية بالمسؤولين هي من البنود الأهم لضمان ذلك الهدف، وهي بالتأكيد أهم من سقف بيت سيقع جراء عامل تسرب الماء بين الباطون!
باختصار شديد، إن هذه الإجراءات والتهديدات التي ترفعها وكالة الأونروا في وجه الفلسطينيين، تهدف إلى إضعاف الفلسطيني وإنهاكه من جميع النواحي، فيغرق في تأمين حاجاته الأساسية بالإضافة إلى دفعه نحو الجهل شيئاً فشيئاً، فيكون مكسب العدو مكسبين. لا يمكننا إنكار خطورة الوضع الراهن، لكن في نفس الوقت على الفلسطينيين التنبه والحذر، وإن فعلت الأونروا ما تهدد الآن به، فعليهم ألا يسكتوا على ما يحدث، لأن السكوت والقبول بنهاية هذه "المؤسسة الدولية" يعني أن القضية بشكلٍ أو بآخر باتت نسياً منسياً حتى في أروقة الأمم المتحدة.