هلّلت الدول الغربية للهبّات الشعبية العربية، وتسابقت على قطف ثمارها. لكن حين طرقت أبواب البحرين، دقّت جرس الإنذار. سقوط آل خليفة خط أحمر بالنسبة إلى كل الفاعلين، باستثناء إيران. ليس حبّاً بآل خليفة، بل لأنّها البوابة التي ستعبر منها شرارة الثورة إلى منطقة الخليج والأنظمة الملكية. لهذا كان إعلان دول مجلس التعاون الخليجي الدعوة إلى تحالف الممالك، وضمّ الأردن والمغرب إليه. انهيار آل خليفة يعني أنّ الدور آتٍ على الجميع، ولا سيما أن تلك الدول تمتلك عناصر مفجّرة في أطرافها.
ولأنّها قاعدة استراتيجية للحلف الأميركي ـــــ السعودي، ومن وَرائهما لمواجهة إيران، فإن سقوط نظامها يعني هزيمة له، ويترجم بأن إيران بات لها موطئ قدم عند بوابة الخليج، وستحرّك خلاياها النائمة في المنطقة برمّتها. ولهذا كان الهجوم الجماعي الخليجي على إيران، وإعلان كشف شبكات تجسّس في الكويت.
اتفق الجميع على أنّ التوازنات الحالية والمصالح تقتضي استقرار الجزيرة. اختلفوا على التفاصيل، وظهرت ملامح انشقاق بين الحليفين الأميركي والسعودي على كيفية التعاطي مع الأزمة وشدّة الحملة الأمنية على المحتجين، لكنهما اتفقا على الهدف.
ومع الضربة الأمنية الحديدية التي وجهها نظام آل خليفة بمعونة أشقائه الخليجيين، علت الصرخة الدولية. ليس اعتراضاً على الحملة، بل بسبب ما خلّفته من مجازر وانتهاكات طغى عليها الطابع الطائفي. حملة أمنية شاملة أنهكت الشعب. ورغم منع وسائل الإعلام الأجنبية من تغطية ما يجري، نجح المعارضون في نقل الصورة واستثارة الرأي العام الدولي، وتسليط الضوء على سياسة الكيل بمكيالين مع انتفاضة البحرين.
التدخل في الأزمة من قبل الدول القريبة والبعيدة هدف إلى كفّ يد السلطة عن استهداف المحتجين، وإطلاق حوار وطني تُقرّر في نهايته مجموعة من الإصلاحات تُرضي المعارضة ولا تُغضب آل خليفة، وتعيد للمملكة استقراراً طويل الأمد نسبياً، ولم تهدف أبداً إلى إسقاط النظام بل على العكس عملت على حمايته؛ ففي الدول غير الملكية، قد ترحل طبقة وتأتي مكانها طبقة أخرى تُعيد للشارع هدوءه. لكنّ سقوط نظام ملكي، يقترب أكثر من الثورة، لأنه يعني قلب نظام الحكم، دستوره وآلياته ومؤسساته، وإن لم يضرب التغيير البنية الاجتماعية والاقتصادية.
مع التدخل الخليجي، وتحديداً السعودي، انقلبت المعادلة وقُطفت الانتفاضة قبل أن تنضج وقُلِبت الصورة. أصبح الحكم والطائفة السنيّة هما المستهدفين، والمعارضة وشباب انتفاضة 14 شباط أدوات إيرانية للولوج إلى بقاع الخليج العربي.
أتت الضربة الأمنية بغطاء غربي. ورغم ما أُشيع عن امتعاض ومعارضة أميركيين لأسلوب السعودية في إدارة الأزمة، لكن عدم صدور أي إدانة دولية، باستثناء إيران طبعاً، بدا كأنه تواطؤ دولي على انتفاضة البحرين. لا بأس ببعض الإصلاحات شرط بقاء المملكة صخرة منيعة في مواجهة الفرس. حتى سوريا، الحليف الاستراتيجي لإيران، لم تُدن دخول قوات «درع الجزيرة»، واعتبرت ما يجري في البحرين شأناً داخلياً خليجياً.
بعدها نشطت الوساطات لوقف آلة القمع والتمهيد لحلّ سلمي عبر الحوار. لكن أي وساطة لم يُسمح لها بالمرور من دون مباركة الباب العالي السعودي. أول الداخلين كان الكويت، أكثر من تأثر بانتفاضة البحرين، حيث اشتعل سجال داخلي بين مؤيد ومعارض لدخول قوات «درع الجزيرة» إلى البحرين ومشاركة الكويت فيها، وانسحب الأمر على رجال الدين والسياسيين. من بارك الانتفاضة من باب التعاطف المذهبي، ومن خوّنها، هؤلاء موالون للأنظمة الملكية، إضافة إلى كشف شبكات تجسس إيرانية لدعم نظرية العمالة لإيران.
سقطت الوساطة الكويتية عند أول عقبة. قيل إن السعودي لم يكن راضياً عنها، فتدخل التركي. بعد أخذٍ وردٍّ وتسريبات عن جهود تركية لحل الأزمة، أعلن وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو أنه ليس في جعبة أنقرة أي وساطة، بل مجرد محادثات واتصالات لتلطيف الأجواء. قيل أيضاً إن الفيتو السعودي لم يسمح للوريث العثماني بالتدخل في شؤون الخليج. لكنّ مصادر المعارضة أصرّت على أنّ التركي يعمل خارج الأضواء لحلّ الأزمة.
كان للسوري دورٌ في الوساطات أيضاً، حيث نقل رسالة من الملك السعودي إلى إيران عبر وزير الخارجية وليد المعلم. الأوروبيون تابعوا الأزمة من بدايتها. أجرى مستشار الأمن القومي البريطاني زيارة إلى المنامة والتقى الملك قبل دخول «درع الجزيرة». كذلك لقيت القضية اهتمام البرلمان الأوروبي، وأُوفدت كاثرين آشتون بمهمة خليجية. لكن قبل أن تطأ قدماها المنامة، بدأ رشقها في الرياض. وظلت الزيارة غير مؤكّدة حتى اللحظة الأخيرة، وسط أنباء عن عرقلة السلطة للقاء آشتون بالمعارضة.
انتهت المهمة الأوروبية قبل أن تبدأ، ووقفت السعودية في وجه أي طرف حاول الدخول على خط الأزمة. أما القطب الأميركي فله حكاية أخرى. التحركات الأميركية بدأت باكراً. أجرى مساعد وزيرة الخارجية جيفري فيلتمان زياراته الأولى بعد أكثر من أسبوعين على اندلاع الانتفاضة. وقبل يومين فقط من دخول قوات «درع الجزيرة»، دخل المملكة وزير الدفاع روبرت غيتس، ليرجّح احتمال التواطؤ الأميركي مع هذا الدخول. عاد فيلتمان أكثر من مرّة إلى المملكة عارضاً نفسه وسيطاً، وملتقياً أبرز قادة المعارضة.
رغم كل التحركات الدولية لم يبرز أي وسيط. ومع هذا واصلت الدول الغربية جهودها عبر سفاراتها لحثّ المعارضة والسلطة على الاتفاق على تسوية مُرضية للجهتين، تنطوي على إصلاحات سياسية ودستورية. يومان ويبدأ الحوار، وتنكشف أكثر معالم هذه التسوية. فهل ستُفضي نحو استقرار طويل الأمد ومشاركة في السلطة، أم سيكون لشعب البحرين موعدٌ جديد مع انتفاضة جديدة، بما أن تاريخه حافلٌ بها.