كلّهم جنود
الجليل ــ أنهار حجازي
غريب هو الشعور، عندما اجلس في الصف وأمامي يجلس «زميل» لي في مقاعد الدراسة، لا يشاركني أي قاسم مشترك، سوى أني أجيد الحديث بلغته التي بكثير من الأحيان لا تكون لغته الأم، وأننا كلانا ندرس المادة ذاتها. أو عندما أسير في «حرم» الجامعة، فتلتقط أذني عشرات اللغات التي لا تمت لهذه الأرض بصلة، ولكن جميع أولئك المتحدثين بهذه اللغات الغريبة، يدّعون بنوتهم لها! كل هذه هي أمور اعتدتها، فقد اعتدت لغتهم، رغم أني أتعمد الحديث بها بلكنة عربية (كأن اشدد على حرف العين والحاء)، واعتدت وجودهم (رغما عني)، اعتدت أن ابتسم في وجوههم لقضاء حاجة، واعتدت أن أكون مشككة بنواياهم اتجاهي، اعتدت أن لا أثق بهم (حتى أولئك الذين يقفون في صفنا ويقودون أهم حملات المقاطعة ضد إسرائيل، والناشطون في حقوق الإنسان والأسرى والتحقيق في جرائم الاحتلال)!
اعتدت أن أضرب وأصدقائي في المظاهرات الطلابية، أن نذهب لنتظاهر أمام المحاكم ومراكز الشرطة بعد كل مظاهرة معترضين على اعتقال زملائنا، وطبعا، أن نزور بعض المستشفيات أو المراكز الطبية لمعالجة أو زيارة المصابين منا.
أول مرة يُصدم الواحد فينا من حقيقة الوضع؛ من يظن أن الشرطة ستستخدم الأحصنة في فضها لمظاهرة طلابية مرخصة؟ وأنها ستفض تلك المظاهرة التي رخصتها هي قبل انتهاء الوقت المُعطى؟ تكون الصدمة أول مرة فقط، ثم نعتاد الأمر!
اعتدنا أن نقف للتظاهر ويقف مقابلنا «زملاؤنا» يتوعدون بطردنا، يشتمونا وقضيتنا، اعتدنا أن نرى بعض المعيدين (مساعدي المحاضرين) يشاركونهم، واعتدنا أن نتفاجأ كلما ظهر واحد من أولئك المعيدين داعما لنا ولقضيتنا، فقلائل هم الذين يعترفون بجرائم الإحتلال، وأنا من بين كل هذا اعتدت أن أشك وأن لا أثق بأحدهم!
يصورنا الأمن في الجامعة في أوقات فعالياتنا الوطنية حتى يقوم باستغلال تلك الفيديوهات أو الصور ضدنا في لجان الطاعة التي اعتاد الطلاب العرب أن يتم تقديمهم إليها بحجة الإخلال بالنظام أو الأمن العام في الجامعة خلال تلك المظاهرات. أعتاد الطلاب العرب تصويرهم خلال المظاهرات حتى باتوا يبتسمون لكاميرات الأمن، تماما كما اعتادوا أن لا يُقدم أحد من الأمن أو الشرطة للمحاكمة أو المحاسبة إن اعتديّ على طالب عربي في المظاهرة أو الفعالية نفسها. ولهذا بدأت أعد نفسي للاعتياد على التصوير خلال المظاهرات والفعاليات الوطنية من اجل توثيق ما يحدث حقا!
نعتاد أن نكون كالمحاربين، أو أن نصير مثلهم، نرد الصاع صاعين، نحارب من أجل حقنا برفع صوتنا، من أجل أن نبدي رأينا، وان لا نعتاد الصمت، فقد اعتدنا الكثير غيره حتى الآن!
اعتدت كل هذا، إلا شيئا واحدا :، ما زلت لا اعتاد منظر الجنود في باحات «الحرم» الجامعي، طلابٌ عساكر بكامل الزي العسكري والجزمات العسكرية الفظة، والاهم من كل هذا، أسلحتهم المعلقة على أكتافهم، كما في ساحات المعارك وعلى الحواجز!
لا اعلم ما هو عدد الجامعات في العالم الذي يدرس بها الجنود وهم يرتدون زيّهم العسكري، ولا استطيع أن احدد ما هو عدد تلك الجامعات التي تسمح للجنود بان يدخلوا أسلحتهم إلى «حرم» الجامعة، ماذا يعني هذا؟ هذا يعني ببساطة أن «زميلي» ذاك، الذي يثير فيّ شعورا هو مزيج من عدة مشاعر، يدخل بزيه العسكري إلى قاعة المحاضرة بكل عنجهية، يبتسم لي ولغيري من الطلاب العرب، وهو يناول أحدنا ورقة «الحضور». في حين أننا جميعا نفكر بذات السؤال: هل قتلت يداه اللاتي تناولني الورقة الآن؛ طفلا فلسطينيا؟ أو أهانت شيخا؟ أو ضربت امرأة؟ أو اعتقلت شابا؟ لا احد منا يدري، جميع أولئك الذين يشاركونا الدراسة، سواء كانوا جنودا أو «مدنيين»، جميعهم اشتركوا بالجريمة ذاتها، لكل واحد فيهم دور مهم في مسرحية الديمقراطية، فجميعهم ممثلين، جميعهم كاذبين، وكلهم على الإطلاق «جنود» !
ماذا يعني أن تكون طالبا عربيا في حيفا؟ هذا يعني أن تُضرب وتُشتم وتعامل معاملة المجرم أن أردت التضامن مع أبناء شعبك، أن تتوقع ببساطة أن تُقابل بالاستهجان إن اعترضت على جريمة ارتُكبت بحق أهلك، والاهم، أن تعتاد حرم الجامعة مكتظا بالجنود ورشاشتهم الآلية، حيث أن أولئك الجنود هم «زملاؤك» في مقاعد الدراسة، مصليا في قلبك، أن تكون تلك الأسلحة فارغة من ذخيرتها حقا كما يدعون، آملا بان لا تقع إحداها بيد احد «مجانينهم» فيرتكب مجزرة ما!