صنعاء | لا يبدي كثير من اليمنيين الودّ تجاه أي تحرك تقوم به السعودية بشأن بلادهم. لقد علمتهم التجارب أن غالبية الحفر التي تعثرت فيها أقدام دولتهم كانت من صنع «الشقيقة الكبرى»، بحسب تسمية اليمنيين للجارة السعودية. ولا يزال الكبار يتذكرون بحسرة كيف ساهم «أمراء الحرمين الشريفين» في عرقلة سير الثورة اليمنية الأولى في الشمال عام 1962، عندما تدخلت المملكة في دعم الملكيين والقبائل التي ضختها بأموال وكميات كبيرة من الذهب لوقف تقدم الثورة ومنع شبابها من إحراز أي تقدم في طريق ثورتهم الوليدة التي جرى سحقها وسحق شبابها في آب عام 1968 والانتهاء بتأليف حكومة توافقية من القوى التقليدية والملكية، وبين من بقي من الثوار. وفي الحقيقة أن المملكة نجحت فعلاً في تحويل الثورة إلى أزمة سياسية، مختزلة الدافع الرئيسي لها والذي هدف الى تغيير بنية نظام الحكم إلى هدف واحد تمثل في إبعاد بيت حميد الدين عن الحكم والإبقاء على بقايا النظام الملكي. وهو ما نراه اليوم يتكرر بشكل يكاد يكون متطابقاً مع ما جرى في الماضي القريب. فمع دخول ثورة الشباب اليمنية طور تحولها إلى ثورة شعبية واسعة، وجدت المملكة السعودية ملزمة بتغيير دفة هذه الثورة وتحويلها إلى أزمة سياسية صرفة يمكن التعامل معها ومعالجتها عن طريق المبادرات السياسية. وأوضح الباحث في الشأن السعودي اليمني فيصل عبد الله، لـ«الأخبار» أن النظام في السعودية لا يمكنه بأي حال من الأحوال السماح بنجاح الثورة الشبابية، مضيفاً إن «كلفة نجاح هذه الثورة ستكون عالية للمملكة وسيفرض خسارتها لشبكة تحالفات سياسية واسعة بقيت تبنيها طوال سنوات، وكذلك يبرز خوفها من انتشار عدوى الثورة وانتقاله إلى أراضيها القريبة».
ولهذا كان من الطبيعي أن تغامر السعودية بخسارة رأس النظام اليمني الممثل بالرئيس علي عبد الله صالح، في مقابل بقاء بنية الحكم السابقة على حالها. ومن هنا أتت المبادرة التي حملت شكلاً خليجياً ولم تكن في الأساس غير صورة محوّرة لصيغة اتفاق بين الرئيس صالح واللواء علي محسن الأحمر، من جهة، والمملكة السعودية من جهة أخرى، وهي المبادرة التي جهدت الأخيرة لإبقائها على الطاولة رغم رفضها من قبل شباب الثورة وتعنت الرئيس صالح حيالها، رغم تدخله في إعادة صياغتها لأكثر من مرة.
وإذا كان سعي السعودية واضحاً في عملية تحويل ثورة الشباب اليمنية إلى أزمة سياسية وذلك بهدف الإبقاء على بنية النظام السياسي، فإن سعي إدارة الولايات المتحدة الأميركية كان أكثر وضوحاً في مسألة سعيها للإبقاء على أقارب الرئيس صالح في مناصبهم العسكرية، وأهمهم نجله أحمد قائد الحرس الجمهوري ويحيى محمد عبد الله صالح قائد الأمن المركزي وعمار محمد عبد الله صالح المشرف على جهاز الأمن القومي اليمني. وقد جاء هذا الإصرار واضحاً في صيغة الاتفاق الأول الذي جرى بين الرئيس علي عبد الله صالح وعلي محسن الأحمر وأحزاب المعارضة اليمنية، وقد تم بعد أسبوع من جريمة «الجمعة الدامية»، التي سقط فيها نحو 52. فالاتفاق الذي تنصل منه الرئيس صالح لاحقاً، لم يتطرق إلى مصير أقارب الرئيس في الحكم، ما عزز نظرية بقائهم في مناصبهم بحجج ضمان الخطط الأمنية التي تم الصرف عليها من قبل الحكومات الأميركية في سياق برامج مكافحة الإرهاب، وهي البرامج التي تمت بالتعاون مع نجل الرئيس وأبناء شقيقه. وعليه يظهر الاهتمام الأميركي بالوضع الأمني في اليمن على رأس قائمة أولوياتها في المرحلة المقبلة، على الرغم من أنها وصلت الى قناعة بضرورة رحيل رأس النظام الحالي الممثل بصالح.
وفي السياق نفسه، تأتي زيارة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية إلى صنعاء وبقاؤه لمدة يومين في أول سابقة لمسؤول أميركي رفيع يزور اليمن، حيث لا تستغرق مثل هذه الزيارات في العادة أكثر من ساعات محدودة. وقد يبدو هذا متماشياً مع ما قاله جيفري فيلتمان في لقائه مع أمناء عموم أحزاب المعارضة اليمنية وإبلاغهم بطريقة غير مباشرة أنه صار مشرفاً رسمياً على الملف اليمني، وأن عملية نقل السلطة في اليمن بطريقة آمنة وسلسلة قد صارت أمراً مفروغاً منه، وأن الإدارة الأميركية قد وصلت بشكل نهائي إلى أهمية رحيل الرئيس اليمني. لكن كان اللافت، أثناء حديث فيلتمان لممثلي المعارضة، تأكيده لضرورة نقل السلطة أنه لم يتطرق نهائياً الى وضع اقارب الرئيس في الخريطة الجديدة لليمن، وكأن مسألة بقائهم لا تأتي ضمن اتفاق نقل السلطة وأنهم باقون ولو إلى حين. كذلك كان لافتاً تأكيد فيلتمان أن أي شيء من هذا لن يتم بغير الاتفاق مع الشركاء في السعودية، وهذا ما يحسم مسألة أن الملف اليمني قد صار مستقراً بين يدي هذين الطرفين.