تونس | في بهو مجلس المستشارين (الغرفة التشريعية الثانية) المنحل بعد إلغاء العمل بالدستور السابق، يلتقي أسبوعياً عدد من أعضاء مجلس تحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي، الذي تألّف بمرسوم قانوني من طرف رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع. لقاءات شهدت مع مرور الوقت سجالات حادّة وانقسامات وانسحابات. جاءت الدعوة إلى تأليف المجلس على أثر اعتصام المئات من التونسيين في ساحة الحكومة بالقصبة، بعد أسابيع من إطاحة نظام زين العابدين بن علي. وكان الإطار الأسلم للحفاظ على سير عمل أجهزة الدولة، لتفادي الفراغ المؤسساتي الذي نتج من الثورة. وبعد جدل بخصوص تشكيلة أعضائه، تقرّر توسيع تركيبته كي تضم ممثلين عن أحزاب ومنظمات مدنية وشخصيات معروفة سبق أن ناضلت ضد حكم بن علي ورفعت لواء المطالبة بالحريات الأساسية، واختير عياض بن عاشور رئيساً للمجلس، نظراً للمكانة العلمية والأكاديمية التي يحظى بها، محلياً ودولياً.
مع مرور الوقت، بدأت تنكشف الخلافات بين أعضاء المجلس، الذي راعى في تمثيله تواجد مختلف الجهات التي تحظى بوزن في المشهد السياسي لتونس؛ فالاسلاميون واليساريون والقوميون والليبراليون ممثلون في هذه الهيئة، التي تفتقد الشرعية الشعبية، على أساس أن اختيار أعضائها تم بواسطة التعيين من رئيس الوزراء الباجي قائد السبسي، لكنّها تتمتع بالشرعية الثوريّة، وهي الشرعية الوحيدة التي تسيّر شؤون البلاد في مرحلة الانتقال الديموقراطي.
أهم ما ميّز تكوين المجلس أنّه أقصى رموز النظام السابق أو ممثلين عن أحزاب «الديكور» التي طالما ساندت النظام. لكن هيمنة البرامج السياسيّة لبعض الحركات المشاركة أدّت إلى تعطيل أشغال الهيئة، وسقوطها في متاهة الجدالات العقيمة.
لقد ثبت أثناء النقاشات داخل قبّة المجلس أنّ الطبقة السياسية تحتاج إلى بعض التدريب على النشاط السياسي المهيكل. فغالبية المداخلات غلب عليها الطابع التشنّجي والخطابي، حتى إنّ البعض لم يتخلص بعد من رداء الخطابات العامة في الكليات والجامعات. في عدد من الجلسات، بلغت حدّة الاحتقان حدّ تبادل الشتائم بين الحاضرين، ما أعطى صورة سيّئة لهذه الهيئة أمام الرأي العام التونسي.
قد تكون هناك غاية لبثّ بعض التلفزيونات لمشاهد العراك داخل المجلس، وحتى التلاطم بالأيدي، تتمثل في الدلالة على جرعة الديموقراطية، لتشبيه ما يحدث بما يجري داخل قاعات البرلمانات الديموقراطية، لكن احتدام الخلافات في بعض الأحيان من شأنه أن يهدّد وجود هذه المؤسسة ككل. فتناقض وجهات النظر حيال مسائل أُحيلت للنظر أمام مجلس تحقيق أهداف الثورة، أدى في عديد من الحالات إلى انسحابات متكرّرة لعدد من الأعضاء. أول الانسحابات كان من طرف المفكر حميدة النيفر، الذي علّل انسحابه بـ«هيمنة جوّ حزبي استقطابي موجَّه يغلب عليه التفكير والعمل وفق اعتبارات ضيقة واحتكام إلى المزايدات لا تتيح لحضور الأشخاص المستقلّين أي معنى بما يحوّل عضويتهم في المجلس إلى مجرّد حجّة باهتة على توازن وهمي عاجز عن تحقيق أهداف الثورة والانتقال الديموقراطي». أما حزب العمال، فقد رفض الانضمام من الأصل تعبيراً «عن رفضه لطريقة تشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديموقراطي وضبط مهماتها ودورها».
بدورها، جمّدت حركة النهضة الإسلامية عضويتها في المرّة الأولى عندما تقرّر تأجيل موعد اجراء انتخابات المجلس التأسيسي إلى يوم 23 تشرين الثاني، قبل أن تتراجع عن موقفها، بسبب استحالة انعقاد الانتخابات في موعدها. وقررت الانسحاب في المرة الثانية، خلال اجتماع يوم الأربعاء الماضي، على أثر انطلاق النقاش حول مسودة قانون جديد للأحزاب السياسية. وهو مشروع أثار حفيظة الاسلاميين والحزب الديموقراطي التقدمي والمؤتمر من أجل الجمهورية، لاعتبارات مختلفة؛ فحركة النهضة استاءت من تضمين مشروع القانون بنوداً تتعلق بتنظيم عمليات تمويل الأحزاب.
وعبّر ممثل النهضة في المجلس، نور الدين البحيري، عن «خشيته من أن تتحول الهيئة إلى ساحة لا تليق بتونس». رغم ذلك، واصلت الهيئة اجتماعها وبدأت بوضع ضوابط أتباع النظام السابق الذين سيمنعون من الترشح لانتخابات المجلس التأسيسي على أساس «انهم يمثلون أيادي الديكتاتورية» على حد تعبير قيادي في حركة الوطنيين الديموقراطيين. ومن المنتظر أن يواصل المجلس اجتماعاته الأسبوع المقبل للنظر في مسودة قانون الجمعيات ومشروع اعلان تونس للمواطنة الذي يتضمن مبادئ عامة سيلتزم به جميع الذين سيُنتخبون في المجلس التأسيسي الجديد.