اجانب
قبل عقد من الزمن، كنت صغيرة جدا، لم يكن عقلي ليستوعب أن ورقة بغطاء ازرق ستحدد هويتي، وأن القوانين كلها وإن اجتمعت وأجمعت على شيء ما، لن تستطيع منعي من أن أكون ما أنا عليه.
يومها،سافرت مع أهلي لأول مرة إلى القاهرة عبر معبر رفح، لم تطأ قدماي ارض غزة إلا يومها. هناك على المعبر، ولم أعد أذكر إن كان هذا في الجهة الفلسطينية منه أم المصرية، وقفنا في طوابير مقسمة حسب الجنسيات: طابور للعرب وأخر للفلسطينيين وثالث للمصريين وواحد للأجانب. اصطف كل أهلي في طابور الأجانب، ووقفت انا بجوار أمي، حائرة في سبب وقوفنا في هذا الطابور! فكرت، ربما لأن طابور العرب والفلسطينيين ممتلئ، ونحن لسنا مصريين. لكن، وان لم تخني ذاكرتي، كان احد هذين الطابورين شبه فارغ، إذا لماذا؟ لم أجد جوابا يفسر هذا الخطأ الفظيع، فسألت أمي، أليست هي وغيرها من «الكبار» من وقفوا في هذا الطابور وأجبروني على التسمر هناك؟ قالت أمي أن السبب كوننا نحمل «الباسبور الإسرائيلي»، وهو جواز سفر أجنبيا. كان صعبا أن اقتنع: كيف لورقة أن تحدد ما أنا والى من انتمي؟ إذا، كل ما تربيت عليه يزول أمام أول ورقة رسمية تصدر من وزراه الداخلية يصادق عليها العالم ؟
لم تكن تلك أول مرة يصدمني العالم بها بما يتعلق بموضوع الانتماء، قبلها بسنة، في زيارتي الأولى للأردن، مع عائلتي كذلك، عندما كنا نتجه إلى القصر الملكي، كأي سائح يزور الأردن لأول مرة، كان سائق التاكسي فلسطيني الأصل، ولما علم أننا جئنا من فلسطين المحتلة، تواصل معنا تماما كمن يرى أخاه لأول مرة بعد انقطاع سنين، «الدم بيحن» أفكر في نفسي كلما تذكرته، وقتها لم يسمحوا لنا بالدخول، لان اجتماعا ما كان يعقد هناك، فما كان من السائق إلا أن شرح لوالدي: أننا لو أظهرنا جوازات سفرنا «الإسرائيلية» وتحدث أبي بالعبرية معنا وبالانجليزية معهم، فحتما كانوا سيدخلوننا !
بعدما كبرت، وصار «زملائي» في المدرسة أولئك الذين يقفون مقابلي في كل تظاهرة طلابية ليصيحوا في وجهنا: «اذهبوا إلى غزة»، ظناَ منهم أننا نفرق بين الجليل وحيفا وغزة، فهمت لم لم افهم تلك «الترهات» في صباي المبكر: إنها مجرد ورقة، وان كانت من وزارة الداخلية وقد صادق عليها العالم بأجمعه، ستظل مجرد ورقة وسأكون ما أنا عليه وما كنت عليه دائما!
أنهار حجازي ــــــ الجليل

■ ■ ■

جواز سفر

كل ما كنتُ أعرفه في صغري أن أُمي فلسطينية ووالدي لبناني، لكن كليهما يحمل جواز السفر اللبناني نفسه ويُعاملان المعاملة نفسها على الحدود السورية والأردنية قبل بلوغ الحدود السعودية في رحلتنا السنوية بالبر!
أذكر مرة،كنا ننتظر في الباص على الحدود بين»بلدين صديقين عزيزين»، وكما تعرفين في سفريات البر، يُمر شرطي الحدود في الباص ليتفحّص جوازات الناس. لا أعرف ما كان يدور في رأس أخي الصغير وقتها، إذ سأل أمي بأعلى صوته: «ماما، مش إنتي فلسطينية؟!». يا إلهي يا أنهار، لن تصدقي كيف تلوّن وجه أمي بألف لون، وأسكتت أخي آملة أن لا يكون الشرطي قد سمعه. لكن هذا الأخير إلتفت إليها وسألها: «إنتي فلسطينية؟»، أجابت: «لأ، مش شايف باسبوري لبناني!»، هز الشرطي رأسه وغادر الباص، ربما قرأت أمي القرآن بأكمله يومها «اللهم إجعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدا!». في الثمانينات كان صعباً على فلسطيني يحمل الجنسية اللبنانية ان يصّرح بذلك. ولا زلت أذكر تلك المحاضرة التي ألقتها علينا أمي بعد بلوغ السعودية، «اذا سألوكم أنا شو؟ شو بتقولوا؟» نقول: «لبنانية!»، «اذا سألوكم ليش ماما معها باسبور لبناني وبطاقة إعاشة؟» نقول: «ستي فلسطينية بس ماما لبنانية!». لن أكذب على أحدٍ وأقول أنني حينها كنتُ أفهم، لا لم أكن أفهم! لكنني بدأت أفهم تدريجياً يوم عُدنا إلى لبنان أوّل التسعينيات وإضطررنا المرور على حاجز . كنتُ أبكي وصراخي يصل من صور إلى صيدا! نظر إلي شرطي الحاجز وقال: «بتسكتي ولا آخدك لعندي؟!» تسمرّت على معقد السيارة لا من تمّي ولا من كمّي!
وكيف لي أن أفهم قبل هذه «الأحداث»، وخاصة أن والدي كان يزودنّا بمعلومات خاطئة عن الحرب في لبنان كلما سألناه. كان يقول لنا أن لبنان مُحتل من إسرائيل، وأن من يقول لنا أن هناك حرباً أهلية هو كذّاب! كان يقول أن هناك جنود عرب يحموننا من الإسرائيليين في لبنان وأن اللبنانيين لا يقتلون بعضهم بعضاً! والديّ كانا يكذبان علينا ونحن صغار، لربما ليسا النموذج الأمثل للأهل في جميع كتب التربية، لكنهما في نظري قديسين لأنهما فعلا المستحيل كي لا نكره أحداً!
إيمان بشير ــــــ بيروت