لم تكن الاحتجاجات الشعبيّة التي شهدتها العديد من المدن السورية منذ آذار الماضي سوى محطة من محطات وضع اليد على الجرح الاقتصادي السوري الذي ارتبط باسم أحد أنسباء الأسرة الحاكمة، بما هو رمز للفساد والمحسوبيات، ونتيجة واضحة لوثيقة زواج بين الأمن والثروة. رامي محمد مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، رجل الأعمال المعروف بأنه ظل النظام المالي، وصورته الاقتصادية التي لا يمر أي مشروع في البلاد إلّا من خلالها وبعد موافقتها أو مشاركتها. هو الشاب الأربعيني الذي أعلن أول من أمس أنه سيترك العمل في التجارة ليشارك في الأعمال الخيرية.
إعلان لم يكن ليكون لولا استفحال المواجهات بين النظام والشعب على خلفية صدور لائحة مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية أصبحت محاكمة مخلوف على رأسها.
أول الغيث كان بقرار خارجي حين أدرجت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مخلوف على قائمة العقوبات التي تشمل تجميد الأصول والمنع من السفر.
وأصبح مخلوف المتهم الأول بعد النظام بإفقار السوريين ونهب ثرواتهم والسبب في هجرة العديد من المستثمرين الذي ضاقوا ذرعاً بتدخلاته ومحاولاته المشاركة أو وضع اليد على أي وكالة لماركة عالمية أو مشروع اقتصادي يدخل الى سوريا. لكن الاقتصادي الشاب رد بعصبية على مطالبات الشعب بمحاسبته على أعماله، محذراً اسرائيل والغرب بقوله «لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا».
لكن تطور المواجهات وسقوط المزيد من الضحايا على مذبح انتهاكاته لثروات السوريين، جعلت الرجل يبحث عن وسيلة للتنفيس بدلاً من الإثارة التي ارتدّت سلباً عليه بتصريحه السابق، فأعلن أنه لن يدخل في أي مشاريع جديدة تدر عليه ربحاً شخصياً، وأنه سيطرح جزءاً مما يملكه من أسهم في شركة الاتصالات السورية قريباً لذوي الدخل المحدود للاكتتاب العام. وفي ما يبدو أنه استجابة لنقد قد يكون وجّهه اليه الرئيس بشار الأسد، قال مخلوف «لن أسمح بأن أكون عبئاً على سوريا ولا على شعبها ورئيسها بعد اليوم».
وفي تقرير عن رامي مخلوف أعدّته صحيفة «نيويورك تايمز» في الأيام الأخيرة تحت عنوان «رجل الأعمال السوري يصبح مغناطيساً للغاضبين والمنشقّين»، وصف مخلوف بأنه «مصرفي أسرة الأسد» و«السيد 5 في المئة»، في اشارة الى العمولات التي يحصل عليها من كل مشروع يدخل البلاد.
المفارقة أن الرجل في أعين مؤيديه هو محل مديح وثناء لما يقوم به من استثمارات ومشاريع توظيف للشباب، لكنه بنظر معارضيه هو لص ناهب لثروات سوريا ومحتكر لقطاعاتها الاقتصادية. لذلك كان من الطبيعي أن يرفع المواطنون في درعا وغيرها من المدن «رامي مخلوف يسرقنا» مع التذكير بأن زوجة مخلوف هي ابنة محافظة درعا.
لم تتوان «نيويورك تايمز» عن وصفه بأنه النسخة السورية عن أحمد عز في مصر أو ليلى طرابلسي في تونس. لقد اصبح اسمه مرتبطاً بالمطالب الإصلاحية بعدما «حوّل الاقتصاد السوري من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ما جعل الفقراء أكثر فقراً والأغنياء أكثر ثراءً وبنحو خيالي»، على حد وصف الصحيفة الأميركية.
وتنقل «نيويورك تايمز» عن محلل سياسي سوري لم تذكر اسمه قوله إن رامي مخلوف «هو رمز للنظام في الجانب الاقتصادي... انهم يكرهون عملاء الاستخبارات ورامي مخلوف».
ويبدو أن مخلوف لم يتوقف عمله على الشأن الاقتصادي، فقد استخدم نفوذه المتولد من قرابته لآل الأسد ومن قوته الاقتصادية التي لا تقدّر، من أجل «التلاعب بالنظام القضائي، واستخدام الاستخبارات السورية لترهيب منافسيه»، بحسب ما جاء في مسوغ قرار للعقوبات بحقه صدر عن الحكومة الأميركية عام 2008. وذلك بعد اتهامه بالعمل على رفع الحصانة عن النائب رياض سيف وسجنه لمدة سبع سنوات لمجرد أنه تجرأ وسأل عن مخالفات شركة «سيرياتيل»، التي يمتلكها مخلوف.
نفوذ ابن خال بشار الأسد، الذي أعلنت وزارة الخزانة الأميركية إدراج عدد من شركاته على لائحة الإرهاب، هو نتيجة علاقة عميقة وتاريخية بين والده محمد مخلوف والرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي أفسح أمام «أبو رامي» المجال لـ«الاستفادة»، بدعم من الأسد شخصياً، حيث تسلم مخلوف الأب إدارة «الريجي»، ثم المصرف العقاري.
لكن مخلوف الابن كان «محظوظاً» أكثر، إذ تولى حصرياً تجارة السجائر، من لبنان إلى سوريا، عبر معبر الجدَيدة، وأنشأ لاحقاً شركة «غوتا» التي تولّت التفاوض مع شركات السجائر والمشروبات الكحولية الأجنبية لترتيب الوكالات لها في السوق الحرة التي سيطر عليها بدعم من النظام.
في سنة 1998 طرحت وزارة المواصلات السورية مناقصة «صورية» لتشغيل قطاع الهاتف الخلوي، ظهر فيها رامي مخلوف شريكاً لشركة «أوراسكوم» المصرية لصاحبها المليونير نجيب ساويروس، لكن مخلوف ما لبث ان اختلف مع ساويروس فصودرت أموال الشركة المصرية في سوريا، ووضع عليها حارسان قضائيان هما إيهاب مخلوف (شقيق رامي)، ونادر قلعي (مدير أعمال رامي). لكن التهديد باللجوء إلى التحكيم الدولي دفع إلى الإعلان عن «حل ودي» للخلاف في تموز 2003، بحيث باتت شركة «سيرياتل» التي يمتلكها مخلوف، إحدى شركتين تشغلان الهاتف المحمول في سوريا.
وتسيطر «سيرياتل» حالياً على 55 في المئة من السوق المحلية، ولديها مليون ونصف مليون مشترك، بينما تركت الحصة الباقية لشركة «أريبا». ويملك مخلوف أيضاً شركة «راماك» التي تعمل في المجال العقاري، وتلتزم مشاريع كبرى بمناقصات وهمية، وأخيراً أسس في سوريا شركة «شام القابضة»، بالشراكة بين عماد غريواتي، وهي شركة تعمل في الاستثمار السياحي. ولمخلوف استثمارات في قطاع الإسمنت والغاز والنفط. وله أكثر من نصف أسهم مصرف المشرق الاستثماري، وشركة «الكورنيش السياحية» لإقامة المشاريع التجارية والخدمية.
حاول مخلوف السيطرة على قطاع تجارة السيارات، لكنه اصطدم بشركة أبناء عمر سنقر، الوكيل الحصري لسيارات مرسيدس الألمانية، وقد وقفت «مرسيدس» إلى جانب سنقر، ما دفع الحكومة السورية إلى إلغاء الوكالات الحصرية، وفرض عقوبات على «مرسيدس». كذلك استولى مخلوف على وكالة BMW وصارت وزارة الدفاع «ملزمة» بشراء السيارات للضباط المسرّحين والمتقاعدين برتبة لواء وعميد منه. وأسس مخلوف شركة خاصة لمراقبة تطابق السيارات المستوردة مع المواصفات الحكومية، بالشراكة مع نجل الرئيس اللبناني السابق، إميل إميل لحود.
وكانت أعماله المشبوهة مثل تبييض الأموال، سبباً في منعه من الاستثمار في أوكرانيا. لكنه استطاع الفوز باستثمار كبير في مجال الاتصالات في اليمن، وقد يكون الاستثمار الخارجي الأهم لمخلوف قد بدأ مع اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري، حيث حوّل الأول قسماً من أمواله إلى دبي، واشترى برجين، سجّل أحدهما باسم زوجته والآخر باسم أولاده.
ويقال إن مالك صحيفة «الوطن» ضالع بفضيحة بنك المدينة اللبناني الشهيرة. وقيل عنه إنه وضع يده على آثار سورية نادرة وكنوز لا تقدر بثمن، عُثر عليها في جانب باب توما في دمشق، وبيعت في الخارج بمبالغ طائلة. ويكشف العارفون بشؤون البيت السوري أن من لا يشارك مخلوف بأعماله التجارية الكبرى يصب عليه سيل من الاتهامات وتُسلط عليه جميع أنواع الابتزاز من وزارة تموين وجمارك ومفتشين وغيره حتى يضطر إلى مشاركته أو تصفية أعماله والخروج خارج سوريا.
لعل آخر ألعاب مخلوف الخطيرة، التي تبين حجم قوته المؤثرة في صنع القرار في دمشق، ما فعله في شهر نيسان الماضي في رد فعل على الاحتجاجات التي شهدتها سوريا. فقد كشف مصدر مصرفي لبناني عن «لعبة» أقدم عليها مخلوف في 30/4/2011، حين عمد إلى سحب عشرات الملايين من الدولارات من السوق السورية دفعة واحدة، وخلال بضع ساعات فقط، من خلال شرائها بالليرة السورية وتحويلها إلى لبنان ودبي. لكنه عاد لضخ كمية أكبر من الدولارات المسحوبة عصر اليوم نفسه، في السوق السورية مرة أخرى. وهو ما أدى إلى إصابة سوق الصرف السوري خلال اليوم المذكور بحالة ذعر لا سابق لها منذ عقود، وإلى خسارة الليرة نحو 13 في المئة من قيمتها خلال بضع ساعات.
الشاب الثري الذي لا يظهر حرجاً في التعبير عن رغبته في بدء الاصلاح رغم أنه الهدف الأول لهذه العملية، لم يجد في صفحاته الكثيرة أي نقطة سوداء ينتقد من خلالها ولو بعضاً من ممارساته، ففي حديث صحافي عن هدف الولايات المتحدة من وضعه على لائحة العقوبات عام 2008، اكتفى مخلوف بالإجابة «لأن الرئيس هو ابن عمتي، أو لأنني ابن خال الرئيس. نقطة على السطر».