درج شيخ المعارضة السورية، رياض الترك، على وصف سوريا بـ«مملكة الصمت»، ويبدو هذا التوصيف اليوم أقرب ما يكون الى حال المعارضة التي بقيت صامتة، مكتفية بمراقبة حركة الشارع. لا بد أن الحسرة تنهش قلوب الكثير من المعارضين السوريين اليوم، فهؤلاء عملوا طويلاً على تحريك الشارع وفشلوا. بعضهم تقاعد، ومنهم من اصيب بالإحباط، وفئة أخرى استنكفت بفعل شروط العمل السياسي التي تضعها الاجهزة الامنية.
يتحسر المعارضون، وهم ينظرون الى الشباب السوري اليوم وهم ينزلون بالآلاف ليهتفوا «الشعب يريد إسقاط النظام». المعارضون لم يصلوا الى هذه الدرجة من الجرأة ولم يكن سقف احلامهم عالياً الى هذا الحد، ورغم انهم أملوا كثيراً من «ربيع دمشق» سنة 2000 لحظة وصول الرئيس بشار الاسد، انكفأوا بسرعة وعادوا الى جزرهم الصغيرة، ينتظرون منها الفرصة التي تنكسر فيها آليات الإكراه الأمني. لا تكفي الحسرة وحدها لتفسير ما يحدث، فهناك ما هو أقسى منها، إنه غياب المعارضة كلياً عن الحراك الشعبي، فمنذ انطلاق الاحتجاجات لم يصدر اي موقف حزبي معارض يضع الأمور في نصابها، باستثناء مقالات محدودة، وتعليقات على الفضائيات لبعض المعارضين، قبل أن تلمّهم الأجهزة الأمنية، أو يمارسوا لعبة التخفي التي صارت عادة شائعة في سوريا.
هل هو الخوف أم التقاعس أم فقدان القدرة على المبادرة؟ ثمة من يصرخ في البرية اليوم، أين هي المعارضة من كل ما يحدث في البلد من حراك، وما يحصل من مواجهات ودم؟ وحتى لو أراد النظام السوري أن يحاور فمن يحاور غداً؟
وحده رياض الترك قارب المسألة فقال، قبل بداية الاحتجاجات بأيام معدودة، «لست أنا، اليوم، في موقع من يقترح الحلول ويضع السيناريوهات المستقبلية. فالتغيير آت بعزيمة الشباب وهمّتهم، ليس فقط لأنهم يؤلّفون غالبية المجتمع السوري، بل لأنهم أثبتوا أنهم أكثر وعياً لمتطلبات العصر من أحزاب المعارضة ورجال السياسة، الذين لا يزال الكثيرون منهم مكبلين بخطابهم التقليدي وممارساتهم البالية، لا يكاد الرقيب الأمني يغادر أدمغتهم أبداً». خلاصة كلام الترك أن التغيير معقود على عزيمة جيل الشباب، ومن منطلق تجربته الطويلة حَكَمَ بأن المعارضة شاخت وهرمت، ولا تزال تعيش مكبلة بخطابها التقليدي، ويعشش في رؤوس زعمائها بعبع الأمن.
عرف نظام حافظ الأسد معارضة منذ وصوله الى الحكم سنة 1970، ومن قراءة لمسار العمل المعارض يمكن الوصول الى نتيجة مهمة هي أن تمثّلات الحركة السياسية السورية طيلة العقود الأربعة الأخيرة أخذت أشكالها ومضامينها انطلاقاً من الموقف من حكم الاسد الأب ومن بعده نجله الرئيس الحالي بشار. وكانت درجة الافتراق أو الاقتراب بين طرف سياسي وآخر قائمة على رؤية هذا الطرف أو ذاك للتغيير. ولذا انقسمت المعارضة الى اجنحة بين مهادنة ووسطية وراديكالية، وصل بعضها الى رفع شعار اسقاط النظام في السبعينيات من القرن الماضي، قبل أن يتحوّل هذا الشعار إلى نغم سحري تردده الملايين في أرجاء الوطن العربي.
تمثّلت المعارضة المهادنة بأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، التي تألفت في سنة 1972، وكانت كناية عن الخلطة المستعارة من تجربة الجبهات في بعض بلدان اوروبا الشرقية، وأملت اختراعها عدة اعتبارات واسباب. أبرزها ان الرئيس حافظ الاسد، الذي اختار الاتحاد السوفياتي حليفاً، أراد أن يقرّب منه الحزب الشيوعي جناح خالد بكداش، الذي كانت تربطه علاقات وثيقة بالسوفيات والكتلة الشرقية ومنظومة الاحزاب الشيوعية العربية. وتحولت الجبهة إلى محفل ملحق بحزب «البعث» مهمته تزيين الديكور العام، وطرد الأرواح الشريرة من بيت الحزب الواحد، ومع ذلك كان التجاوب معها كبيراً، حيث انخرط حزب بكداش بقوة في العمل السياسي الرسمي، وشارك في الحكومات المتعاقبة، ودخلت هيئاته القاعدية في تحالفات مع نظيرتها من حزب «البعث» على مستويات العمال والطلاب والفلاحين والشباب والنساء، لكنه منع من العمل التنظيمي في اوساط الجيش والشباب والطفولة، وقد غُضّ الطرف عن قطاعات الشباب والمرأة، لكن القطاع العسكري بقي خطاً أحمر، وكانت عقوبته الاعدام.
من أجل تلوين المعارضة الجبهوية، اختار الاسد قطاعات من الناصريين والاشتراكيين وبعض الاطراف الأخرى، وكان هدفه أن يظهر امام الرأي العام وكأن الجبهة تمثّل الحياة السياسية السورية على نحو لا يغفل أياً من مكوناتها من جهة، ومن جهة ثانية تعمد أن يبعد عن الحكم شبهة الشراكة بين البعث والشيوعيين. والملاحظة على هذه الجبهة انها لم تتمكن من أن ترسي وحدة سياسية للاطراف المشاركة فيها الى جانب البعث، ومثّل تفرّد «البعث» بالسلطة عائقاً أمام هذا التحالف الجبهوي دون أن يأخذ مداه في المجتمع لجهة خلق حياة سياسية صحية.
وفيما كان «البعث» يرى نفسه صاحب اليد الطولى، لم تعمل أحزاب الجبهة على تمييز نفسها، بل أخذت شكل الإناء الذي وضعها فيه «البعث»، وساهمت النزاعات على الامتيازات الحكومية في شق العديد من أحزابها، فصار الحزب الشيوعي حزبين، تحول أحدهما الى حزب لعائلة بكداش، كما اصبح الناصريون حزبين والاشتراكيون العرب حزبين.
لم تزل الجبهة الوطنية التقدمية حية ترزق رغم كل التحولات التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين، ومع أن الوظيفة التي قامت من أجلها انتهت منذ زمن طويل، فإن النظام يحتفظ بها، ولم تسقط عليه بعد لحظة الإلهام التي توحي له بنقلها إلى المتحف.
تنحصر المعارضة الوسطية ببعض التكوينات الناصرية والاشتراكية التي لم تدخل الجبهة التقدمية، ولم تذهب في نفس الوقت في خط المعارضة الراديكالية لمواجهة النظام، وبقيت تتحرك في الوسط، لكن دورها لم يكن مؤثراً. فهي من ناحية تكوينات صغيرة، ومن ناحية أخرى يعتمد خطابها لهجة اصلاحية، فلا يترك لها مكاناً فعلياً ضمن لعبة السياسة السورية، التي ظلت تتأرجح بين ثنائية الولاء التام والعداء المطلق.
أما المعارضة الراديكالية فيمكن تقسيمها الى تنظيمين رئيسين، هما حزب العمل الشيوعي والحزب الشيوعي ـــــ المكتب السياسي، الذي غير اسمه منذ عدة سنوات وصار يعرف باسم حزب الشعب. طبع هذان الحزبان مرحلة النصف الثاني من السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات بطابعهما، ودارت الحياة السياسية في القسط الاكبر منها حول معارضتهما للنظام. وإن كانا يلتقيان عند نقطة العمل على تغييره، فقد افترقا من حول المواجهات التي دارت بين النظام والإخوان المسلمين في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، فبينما ساند المكتب السياسي يطريقة شبه علنية عمليات «الاخوان» ضد رموز النظام، ولم يستنكرها، اختار حزب «العمل» الوقوف ضد «الإخوان» والنظام على السواء، ورفع شعار اسقاط النظام وادانة الاخوان، وعدّهم قوة طائفية. لم يتسامح النظام مع هذين الحزبين فشن عليهما حملة اعتقالات واسعة شملت الآلاف، وغصّت السجون في تدمر وصيدنايا بالشبان والشابات الجامعيين من اليسار الجديد، الذي كان ينحدر من كل مناطق سوريا وفئاتها الاجتماعية، وقد خضع هؤلاء لبرامج تعذيب قاس، سجّلها الكثير من الكتاب والفنانين في شهادات روائية وشعرية وأعمال فنية.
كانت حصيلة هذه التجربة أن نجحت السلطة في قصم ظهر الحزبين اللذين مثّلا تطلع الجيل الجديد للديموقراطية والتغيير، واستطاعت أن تقصي عدة اجيال من دائرة السياسة، حيث كان للتعذيب والعزل الطويل والترهيب مفعول كبير، وبدت الآثار أكبر على حزب العمل بسبب انتشاره الواسع بين الطلبة، فبعدما كان يُعدّ تنظيماً حديديّاً، خرج من السجون مهشماً ومنقسماً، وسرعان ما خبا وهجه وتحول الى حزب صغير لا تأثير فعلياً له في الحياة السياسية. والفارق اليوم بينه وبين حزب الشعب أن الاخير بقي متماسكاً رغم الانسحابات من صفوفه، وقد ساهم في بقائه على قيد الحياة وجود شخصية كاريزمية هي رياض الترك، الذي امضى قرابة عقدين في المعتقلات، وظل يحتفظ بحيوية سياسية عالية وروح نقدية ونفس شبابي جديد رغم تجاوزه الثمانين من العمر.
تجربة ضرب هذين التنظيمين ادّت إلى نتيجتين كارثيتين. الأولى، انها فوتت على سوريا فرصة قيام حياة سياسية متميزة في المنطقة العربية، بالنظر إلى الحيوية التي امتازت بها اجيال سوريا في السبعينيات والثمانينيات، وكانت المحصلة فقدان البلد لقسم كبير من طاقاته الشابة. والنتيجة الثانية هي ان العمل المعارض تحول في نظر النظام إلى مرادف للخطر، وهو ما دفع بالدولة الأمنية إلى تجهيز نفسها بعتاد رهيب من آليات القمع، فصارت الثقافة الوحيدة المتداولة هي ثقافة الخوف.
لم تحصل انفراجات فعلية في السنوات الأخيرة لعهد الاسد الأب، وجرى التعويل على نجله الذي ورث السلطة، وكانت تجربة «ربيع دمشق» القصيرة تعبيراً حقيقياً عن عطش المجتمع السوري إلى الحرية السياسية؛ انتشرت المنتديات بسرعة قياسية ووصلت حتى القرى البعيدة، لكن صدر النظام لم يكن واسعاً بما فيه الكفاية، فانتكست التجربة بسرعة شديدة.
هناك محطة مهمة جداً في تاريخ المعارضة هي الاحتلال الاميركي للعراق وطرح مشروع الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الذي أخذ اسم «الشرق الأوسط الكبير». في هذه الفترة شرعت الادارة الاميركية بممارسة ضغوط على سوريا تحت بند التعاون في مكافحة الارهاب، وخلال فترة وجيزة زار دمشق عدة مبعوثين اميركيين رفيعي المستوى، منهم وزير الخارجية كولن باول ومساعده ريتشارد ارميتاج، وكانت الرسالة الوحيدة هي الارهاب، وذلك بعدما انطلقت العمليات العسكرية ضد الحضور العسكري الاميركي في العراق.
وفي هذه الفترة بالذات وقع بعض المعارضين ضحية وهم أن الولايات المتحدة تعدّ لإسقاط النظام السوري من العراق، وتعاظم هذا الوهم لدى البعض مع صدور قرار مجلس الامن 1559، وتحول الى ما يشبه كرة الثلج بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري سنة 2004، وتأليف لجنة التحقيق الدولية. وجاء الانسحاب العسكري السوري من لبنان لكي يشيع جواً عاماً باقتراب سقوط النظام السوري، وبدأ بعض المعارضين يرتبون اوراقهم على اساس ان تقرير المحكمة الدولية سوف يكون المفتاح لمحاصرة النظام السوري وإسقاطه.
في هذه المرحلة اختلطت الكثير من الاوراق اقليمياً ودولياً، لكن نشأ جو معاد للنظام السوري، وصارت العديد من الدوائر الاقليمية والدولية، من السعودية الى واشنطن، تعمل على زعزعة حكم الاسد. وجرى البحث عن ادوات محلية لإنجاز هذه المهمة، ولهذا الغرض لُعبت ورقة نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام في مطلع سنة 200، وجرى تشجيع الاخوان المسلمين على التحالف معه في اطار «جبهة الخلاص». لكن مهمة خدام بدت مستحيلة منذ اليوم لأنه لم يتمكن من جر اطراف معارضة ذات صدقية إلى صفّه، وكانت عينه على مكونات «إعلان دمشق»، وتحديداً رياض الترك ورياض سيف وحسن عبد العظيم، الذين يعدون رموزاً على قدر من التأثير في الداخل. لكن عدم تجاوب هؤلاء افشل المشروع.
مرّت العاصفة في حينه وخرج النظام السوري سالماً، واستطاع منذ سنة 2008 أن يفك عن نفسه طوق العزلة الخارجية، ولم يكن يحسب حساباً لحركة احتجاجية من هذا القبيل، فبالنسبة إليه وضعه الداخلي محصّن، وتجربة الضغوط الخارجية برهنت على عدم جدواها.
ما هو مطروح اليوم مختلف تماماً، حيث يقف النظام بوجه حركة شعبية آخذة في تطوير ادوات المواجهة، وفي كل يوم يزداد زخمها، ولا يلوح في الأفق حتى الآن غير الحل الأمني رغم الخطوات الاصلاحية ودعوات الحوار. وهناك معضلة أخرى ليست سهلة، هي غياب المعارضة من المشهد، فالصمت قد يكون سببه التواضع اليوم، لكنه يصبح عيباً في المعارضة السورية، التي يمثّل وضع زميلتها التونسية لها مثالا حياً، فالتوانسة، رغم ما تعرضوا له من إرهاب على يد بن علي، وجدوا في الحراك الشعبي فرصة المبادرة السياسية ومواكبة حركة الشارع، ولذا استطاعوا ان يخلقوا التوازن المطلوب ويحددوا خط الرؤية قبل ان تصطدم السفينة بصخور الشاطئ.



إيران ترفض اتّهامها

رفضت إيران، أمس، اتهامات وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ بدعم حليفتها العربية الرئيسية سوريا في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، حسبما ذكر موقع التلفزيون الحكومي الإيراني. ونقل الموقع عن مسؤول في الخارجية الإيرانية قوله للقائمة بالأعمال البريطانية، جين ماريوت، إن «هذه الاتهامات لا أساس لها، ولا تستند إلى شيء، بل هي محض أكاذيب». وأضاف المسؤول الإيراني، الذي لم يذكر اسمه، «ليس لدى الحكومة البريطانية صلاحية التعليق على البلدان الأخرى، إذ يعرف عنها تدخلها السافر في شؤون الغير، فضلاً عن دورها المدمر في التطورات الإقليمية، خصوصاً تدريبها للقوى الأمنية لدول بعينها، لتمكينها من ممارسة القمع».
وكان هيغ قد صرّح أمام البرلمان البريطاني، الثلاثاء، بأن طهران توفر دعماً مادياً لحكومة الرئيس بشار الأسد. وقال إن «إيران تجمع بين القمع الوحشي لزعماء المعارضة في الداخل وتقديم المعدات والاستشارات الفنية لمساعدة النظام السوري».
(أ ف ب)