لم ينجح المرسوم الذي أصدره الرئيس السوري بشار الأسد في السابع من نيسان الماضي في استقطاب الأكراد أو تحييدهم. ورغم أن المرسوم يلبّي مطالب تاريخية للأكراد تتعلق بحل مشكلة التجنيس، حظي بالتجاهل من خلال جملة الشعارات التي رفعها المتظاهرون الأكراد، وكلها تصبّ في صلب مطالب الحركة الاحتجاجية، وأبرزها «قضية الأكراد ليست الجنسية بل الحرية».
وفاجأ هذا الموقف أطراف الحركة الاحتجاجية قبل النظام، ذلك أن الحراك الكردي في السنوات الأخيرة ابتعد عن مطالب الشارع السوري في جوهرها العام، وأخذ له منحىً مختلفاً تمثّل في اتجاهين متعاكسين: الأول مطلبيّ يركز على حل مشكلة أكثر من 300 الف كردي محرومين من الجنسية، والثاني سياسي ذو طابع قومي انفصالي. وبرز هذا التيار بقوة بعد احتلال العراق، وقيام الكيان الكردي هناك.
عانى الأكراد السوريون التمييز والتهميش طيلة حكم حزب «البعث»، صاحب العقيدة القومية، وشعار «سوريا قلب العروبة النابض»، الذي تعامل معهم على نحو إقصائي، بدأ بعدم الاعتراف بهم مكوّناً من مكونات الشعب السوري المتعدد دينياً وقومياً، فمن جهة أسقط عن بعضهم حقوق المواطنة، ومن جهة أخرى عمل على مسح هويتهم الوطنية، من خلال تحريم التحدث بالكردية ومنع الأكراد من ممارسة طقوسهم الفولكلورية مثل عيد النوروز.
يؤلف الأكراد في سوريا قرابة 10 في المئة من السكان، ويتجاوز عددهم 2 مليون، يتوزعون في عدة محافظات، لكنهم يتركزون بنحو أساسي في محافظة الحسكة. وتعد منطقة القامشلي نقطة ثقلهم الرئيسية، فينتشرون على خطيّ الحدود، ما بين سوريا والعراق، وما بين سوريا وتركيا، وهناك كتلة كردية كبيرة في منطقة عفرين في ريف حلب، بالإضافة الى دمشق، حيث يعد حي ركن الدين، المعروف بـ«الأكراد»، أحد المعاقل الخاصة بهم. ورغم أن بعض الأكراد استوطنوا المدن الكبرى مثل حلب ودمشق، وبرزوا في الحياة العامة، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، فإن الغالبية العظمى تنحدر من قبائل عاشت في منطقة الجزيرة السورية، مثلها مثل القبائل العربية، وخضعت لنفس شروط الحياة وأنماط الإنتاج، من الرعي الى الزراعة والسكن على ضفاف نهر الخابور الذي ينبع من منطقة رأس العين على الحدود السورية ـــــ التركية، ويصبّ في الفرات قرب دير الزور، وعاش الأكراد تاريخياً على الضفة الشرقية للنهر، ولم يعبروا الى ضفته الغربية، فظلوا يتحركون بين حدود محافظة الحسكة الشمالية والحدود مع تركيا والعراق. وقبل أن يصل حزب البعث الى السلطة، كان الأكراد جزءاً من نسيج الجغرافيا والتاريخ، وعاشوا مع القبائل العربية في تفاهم، وشاركوا مثلهم مثل باقي أبناء المنطقة في الدفاع عنها، سواء في الثورة على الاتراك أو خلال الثورة على الاستعمار الفرنسي، وتقدم بعضهم صفوف الثورات مثل القائد ابراهيم هنانو.
بدأت معاناة الأكراد الفعلية مع وصول حزب البعث إلى السلطة، ومرت بعدة مراحل. المرحلة الأولى هي الاحصاء السكاني لسنة 1962، اثناء حكم عبد الكريم النحلاوي، الذي قاد انقلاب الانفصال عن مصر في سنة 1961. وجاء حزب البعث سنة 1963 إلى السلطة وكرس هذا الأمر وحوّله إلى واقع مر، ونشأت نتيجة لإحصاء الحسكة عام 1962 فئة كردية خاصة عُدّ أفرادها من الأجانب أو غير مسجلين. وحسب الإحصاءات الرسمية السورية يوجد 142،465 كردياً من مواليد سوريا، لكنهم لا يعدّون مواطنين سوريين، ولا يمكن هؤلاء السفر إلى دولة أخرى لعدم امتلاكهم لوثيقة أو جواز السفر، ثم زُوّدوا ببطاقات هوية، لكن تجيز القوانين لهؤلاء امتلاك أراض أو عقارات، ولا يمكنهم العمل في مؤسسات حكومية أو دخول كليات الطب والهندسة وحتى الزواج من مواطن سوري أو مواطنة سورية. لا تشمل هذه القوانين جميع الأكراد في سوريا بل الأشخاص الذين، وحسب الحكومة السورية، لا يمتلكون وثائق تؤكد أنهم من سوريا قبل عام 1945.
أجري الإحصاء السكاني في 23 آب سنة 1962 وكان واضحاً أنه حصل بقرار سياسي في ظل معطيين بارزين. الأول هو حصول الانفصال بين سوريا ومصر. والثاني قيادة الزعيم الكردي العراقي الملا مصطفى البرزاني تمرداً مسلحاً في شمال العراق في ايلول سنة 1961. وحُصر الأكراد في ثلاث فئات. الأولى من يتمتعون بالجنسية، وهؤلاء كان لزاماً عليهم أن يثبتوا أنهم مواطنون سوريون منذ سنة 1945، وتضم الثانية المجردين من الجنسية والمسجلين في القيود الرسمية على أنهم أجانب. والثالثة لا يتمتع أفرادها بالجنسية وهم غير مسجلين في القيود، وأطلقت على هؤلاء صفة المكتوم، وانسحب ذلك على كل المواليد من أم مكتومة وأب مواطن، ومن أب مكتوم وأم مواطنة، ولما كان الاكراد يتزاوجون في ما بينهم، فقد ولّد هذا الإجراء إشكالات كبيرة، فعاشت الكثير من العائلات مقسومة بين مواطنين ومكتومين. وعلى الطرف الآخر برز الأكراد على نحو ملحوظ خلال حكم البعث، فهناك الوزراء وأعضاء مجلس الشعب ورؤساء الأحزاب المشاركة في الجبهة الوطنية الحاكمة والكتّاب والفنانون ورجال الأعمال، وكانت هناك شخصيات بارزة مثل محمود الأيوبي الذي تولى رئاسة الحكومة السورية خلال حكم الأسد الأب، وخالد بكداش مؤسس الحزب الشيوعي السوري اللبناني.
المرحلة الثانية في السبعينيات، والتي عرفت باسم «الحزام العازل». وفي هذه الفترة نقلت الدولة السورية عشائر عربية من منطقة الفرات إلى الحدود السورية ـــــ التركية، وأسكنتها على حدود القرى الكردية، لتكوّن ما يشبه الحاجز بينها وبين الحدود التركية، وقد تضرر الأكراد من جراء ذلك لعدة أسباب، منها أن الحدود كانت تمثّل بالنسبة إلى لكثير من العوائل الكردية مصدر رزق بفضل التهريب ما بين سوريا وتركيا. والسبب الثاني ترحيل قسم من الأكراد من قراهم لتصبح ملكاً للقادمين الجدد، الذين أطلق عليهم الاكراد اسم «المستوطنين العرب». وقد نفت الدولة السورية هذه المزاعم، وكانت حجتها أنها استقدمت العشائر العربية التي كانت تقطن على ضفاف نهر الفرات، حيث أقيم «سد الطبقة»، ولأن مياه «بحيرة الأسد» غمرت أراضي هؤلاء، فإنها عوضتهم بأراض أخرى من ملكية الدولة في المناطق الحدودية. وفي كل الأحوال ظلت هذه المسألة مثار نزاع بين الأكراد والقادمين الجدد، ولم تستقم العلاقة حتى الآن. وفي نظر الكثير من الأوساط أن العملية ذات بعد سياسي مباشر، انطلق من حسابات ترى في صلات الاكراد السوريين بأكراد العراق وتركيا خطراً، بسبب النزعات الانفصالية، ولذا أرادت أن تقيم عازلاً يمنع انتقال الحرارة والعدوى.
المرحلة الثالثة بعد احتلال العراق. وفي هذه الفترة بدأ يتبلور الكيان الكردي في شمال العراق، الأمر الذي أثار نشوة أكراد سوريا، لكنه في نفس الوقت استنفر مشاعر العشائر العربية، التي أحست بالهزيمة، ومردّ ذلك إلى التمازج العشائري الحدودي بين سوريا والعراق، وخصوصاً بالنسبة إلى عشائر كبيرة وواسعة الانتشار مثل الجبور وطي. وكادت الأفراح والاحتفالات الكردية بسبب هذا الحدث، ان تقود الى مواجهات بين الاكراد والعشائر، إلا أن اجهزة الدولة حالت دون ذلك. لكن الأمر لم يدم طويلاً حتى تفجّرت هبّة كردية كبيرة في 12 آذار سنة 2004 في منطقة القامشلي، وامتدت الى مدينة الحسكة، وريف حلب وضواحي دمشق. ودامت عدة ايام، وكانت تنذر بمخاطر كبيرة، بسبب عدم قدرة جهاز الدولة الأمني والعسكري على التحكم بها، وخصوصاً في القامشلي والحسكة، وكان العامل الحاسم في إنهاء انتفاضة الاكراد هو تدخل عشائر الحسكة.
انطلقت شرارة هذه الاحداث أثناء مباراة لكرة القدم في الملعب البلدي في القامشلي، عندما نشب شجار بين مشجعين أكراد لفريق القامشلي ومشجعين عرب للفريق الضيف الآتي من دير الزور، وقتل في ذلك اليوم 13 شخصاً. وانتشرت أعمال العنف إلى مناطق مجاورة ووصلت حتى إلى حلب ودمشق، ونُفّذت حملة اعتقالات في المنطقة. واستناداً إلى منظمة العفو الدولية، اعتُقل ما يقارب 2000 شخص كانوا من الأكراد، وكان من بينهم نساء وأطفال بعمر 12 سنة، وفُصل العديد من الطلاب الأكراد من الجامعات. وقالت رواية الاكراد في حينه إن مشجعي فريق دير الزور هم الذين بدأوا الاستفزازات عندما رفعوا صور صدام حسين، وأخذوا يهتفون بشعارات عنصرية ضد الأكراد.
رغم تطويق الحادث في حينه، ظلّت النار تشتعل تحت الرماد، وكانت شرارة صغيرة، في كل مرة، كافية لإشعال الحريق، وهذا ما حصل في سنة 2008، عندما قتل ثلاثة شبان أعمارهم ما بين 17 و22 سنة أثناء إشعالهم النار حسب تقاليد احتفال عيد النوروز الكردي في القامشلي، حيث فرّقت الشرطة الجموع بإطلاق النار عشوائياً.
الحركة السياسية الكردية لا تختلف كثيراً عن نظيرتها العربية، فالقمع فعل فعله فيها، وعملت أجهزة الاستخبارات على تشتيتها، وتفريخ احزاب صغيرة ودكاكين سياسية، وهي لا تعد ضعيفة، لكنها أخذت تتبلور منذ نهاية السبعينيات في اتجاه قومي. وبعدما ألّف الاكراد الجسم العام للحزب الشيوعي خلال قيادة خالد بكداش، بدأوا يتحولون نحو الاحزاب القومية الكردية بسبب الإحباط العام، لكن قسماً كبيراً من الأجيال الجديدة انخرط في مجرى الحياة السياسية العامة، ولم يعر اعتباراً كبيراً لأصوله الكردية.
وكانت المفاجأة الكبرى أن الأكراد ساروا حتى الآن وفق إيقاع الحراك الاحتجاجي، ولم تأخذهم الغيرة على حقوقهم من منطلق أناني، وصبّوا في المجرى العام بوضوح عبّر عنه زعماء الأحزاب الفاعلة في الحركة الكردية، مثل حبيب ابراهيم رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي، الذي علّق على المرسوم الرئاسي لمنح الجنسية لنحو مئة ألف كردي بقوله «قضيتنا هي قضية الديموقراطية لكل سوريا، والمواطنة هي حق لكل سوري وليست تفضيلاً»، وسار على نفس الطريق محيي الدين شيخ آلي زعيم حزب «يكيتي»، الذي رأى أن «هناك مطالب وطنية كردية تتوافق وتلتقي مع مطالب الشعب السوري والمحتجين في معظم المدن».
وعلى غرار أحزاب المعارضة السورية، لم تتخذ الأحزاب الكردية قراراً بالتظاهر بوصفها أحزاباً، لكنها أبلغت قواعدها أن التظاهر حق مشروع، وأنها تؤيد الاحتجاجات الشعبية في كل انحاء سوريا، وأن مطالب مكوّنات الشعب السوري واحدة، منها اطلاق الحريات وإجازة الأحزاب السياسية وإلغاء قوانين الطوارئ والتوجه نحو المزيد من الديموقراطية.
«جمعة آزادي» أثلجت قلوب الأكراد، فالحركة الاحتجاجية كلها هتفت للحرية باللغة الكردية، وبالنسبة إلى الاكراد، يمثّل ذلك مؤشراً لا يخلو من دلالات وهو يؤسس للمستقبل، حيث يطمح الأكراد إلى اعتراف دستوري بوجودهم بما هم قومية ثانية في سوريا، ورفع الحظر عن استخدام اللغة والثقافة الكردية، وإلغاء جميع القوانين التمييزية ضدهم، والتي تمنع حتى الغناء بالكردية.



الأسد يحاور «العمّال الكردستاني»

كشفت صحيفة «ملييت» التركية، أمس، أنّ الرئيس السوري بشار الأسد ينوي إجراء حوار مع مجموعة من الأحزاب الكردية المحظورة في سوريا، من بينها حزب «العمال الكردستاني»، في خطوة قد تنظر إليها الحكومة التركية على أنها صفعة. وبحسب «ملييت»، فإنّ بين هذه الأحزاب الـ12 التي قبلت الدعوة، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، «حزب الاتحاد الوطني الديموقراطي»، مشيرة إلى نيّة الساسة السوريين الأكراد عرض مشروعهم لإقامة منطقة حكم ذاتي لأكراد سوريا قرب الحدود مع تركيا، لافتة إلى أن موعد الاجتماع مع الأسد لم يحدَّد بعد. غير أنّ مصدراً تركيّاً وثيق الصلة بأكراد سوريا قال لـ«الأخبار» إنّ الأكراد «لن يطلبوا الحكم الذاتي من الأسد، بل المزيد من الحقوق الثقافية والديموقراطية والاعتراف باللغة الكردية وبتخصيص مناصب المحافظين للأكراد في المناطق الكردية وتوسيع صلاحيات المحافظات والمحافظين».
(الأخبار)