لم تحظ شخصية أمنية في الدولة العبرية في السنوات الأخيرة بـ«تعظيم» إعلامي وسياسي كما حظي رئيس «الموساد» السابق مائير دغان. الشخص الذي وصفه الإعلام العبري في أكثر من مناسبة بأنّه «قليل الكلام وكثير الفعل»، أسهم هو أيضاً في بلورة هذه الصورة: شخصية غامضة، قريبة من أبطال الدراما الاستخبارية، أمثال جيمس بوند. صورة عشقها الإعلام والجمهور معاً. فعلى الرغم من أنَّ عمليات الموساد الإسرائيلي تظل قيد السرّية، إلا أنَّ التهليل لشخص دغان كان علنياً على أمور لم تعترف الدولة العبرية رسمياً بتنفيذها.الشخص الذي عيّن رئيساً للموساد في عام 2002، وصفه رئيس الحكومة السابق أرييل شارون بأنه «متخصص بفصل رؤوس العرب عن أجسادهم»، واختارته القناة الإسرائيلية الثانية، أثناء ولاية إيهود أولمرت ليكون «شخصية عام 2009». كان التقرير التلفزيوني في حينه يشرح (بإعجاب غير مخفي) كيف قتل دغان أحد الفلسطينيين بعد استسلامه. وكيف أن دغان «أعاد الموساد ليكون الذراع الطويلة لدولة إسرائيل».
لم يعتد الإسرائيليون سماع صوت الرجل. لكن دغان كسر صمته المعهود وتحدث أخيراً مع عدد من الصحافيين وأنهى مسلسل جيمس بوند الدائر من حوله. قبل أقل من شهر، رأى دغان أنَّ عملية إسرائيلية عسكرية ضد المفاعل النووي في إيران هي «فكرة غبية»، منتقداً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه إيهود باراك. هذه التصريحات النادرة وضعت حداً للتعاطي معه كأنه «محارب» في الظلال، وتحول بنحو غير رسمي إلى شخصية سياسية قيد الجدل، وخصوصاً أنه طالب أخيراً بوجوب قبول مبادرة السلام السعودية؛ إذ شن وزراء إسرائيليون هجوماً منقطع النظير على الشخصية الأمنية. قال الوزراء لوسائل الإعلام إن «دغان فشل وكان من الأفضل لو أغلق فمه»، وطالب وزير العلوم الإسرائيلي دانييل هيرشكوفيتش بتقديم رئيس الموساد السابق للمحاكمة، بينما قال وزير آخر إن «دغان يلحق الضرر بقوة الردع الإسرائيلية»، مضيفاً: «إن أعداءنا يعتقدون اليوم أن إسرائيل ضعيفة. وممكن أن تتفكك كما في عام 1973. هذا أمر سيئ جداً». وثمة وزراء أيضاً أشاروا إلى أن دغان يلعب لعبة سياسية ووضع نفسه «في اليسار».
لكن في نهاية المطاف، لا يمكن رؤية تصريحات دغان إلا بعين سياسية، ومن وراء الرجل هدف أكبر من مجرد التصريح. الرجل الذي يؤيده الإسرائيليون ويعشقون طلته الصامتة، تحدث أخيراً ليطرح صوتاً معارضاً لنتنياهو. المحلل السياسي لصحيفة «هآرتس» ألوف بن وصف دغان، بعد تصريحاته الأخيره، بأنه «شارون جديد». وهو محق. إنّ من يتطلع إلى تاريخ الاثنين، يعي جيداً أنَّ السياسة التي اتبعها شارون في حياته السياسية بعد العسكرية قريبة إلى تلك التي بدأها دغان. فقد كان شارون ضابطاً على دغان في سبعينيات القرن الماضي، وهو من عيّنه رئيساً للموساد. الفرق بين الاثنين أنَّ شارون بدأ السياسة باكراً، بينما دغان يبدأها ما بعد جيل 66 عاماً.
إن صورة رئيس الموساد السابق اليوم تتغير. من ورائها هدف سياسي أكثر من أي وقت مضى. فرغم أن القانون الإسرائيلي يلزمه (كما يلزم أمنيين آخرين) بأن ينتظر ثلاث سنوات قبل أن يترشح للبرلمان، إلا أن دغان يبقى صوتاً سياسياً معارضاً لنتنياهو. صوت أيضاً تبنته أوساط من اليسار الإسرائيلي (الواهنة أخيراً) التي وجدت نفسها تدافع عن شخصية مثل دغان يحمل ماضياً عسكرياً يشوبه السواد. وقد لخص ألوف بن ما يجري مع دغان بقوله إنه إذا صد دغان هذا الهجوم عليه، «فسيثبت ملاءمته لرئاسة المعارضة».