وجه عماد دائري وأبيض. عيناه ذائبتان في وجهه. تلمعان في الصورة التي يحملها أحد أصدقائه مزهوّاً. عماد بو شقرة صغير. عمره سبعة عشر عاماً فقط. وبما أنه استشهد باكراً، ربما ينطبق عليه وصف الكاتب المغربي، محمد شكري، في «الخبز الحافي»: الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة. عماد ملاك «الباراكسات». صغير عائلة من أب، أم، وخمسة أبناء. تدلّك صوره المنثورة في مخيّم عين الحلوة إلى منزله، الذي لا يبعد كثيراً عن بوابة المخيّم، خلف «حاجز الحكومي». الحاجز القريب من المستشفى. منزل على هيئة المخيّم، في قلة المساحة، ورحابة الأهل. ولد وعاش في ذلك الحي الضيق، ولطالما رغب في مغادرته، لكن شقيقته تؤكد أن شقيقها الأصغر كان يكره السفر. الرحيل بالنسبة إليه يعني العودة. لم يحب السياسة والفصائل والأحزاب. كان عصبياً في مزاجه لا في اهتماماته، فكانت فلسطين قضيته الوحيدة. لذلك، كانت مشاركته في كل التظاهرات والاعتصامات التي تدور في فلك قضيته مفهومة. يتدخل صديقه هنا. علي الدوالي، صديق عماد القديم، يقطع الحديث ليستعيد الحادثة. عماد على الجبل في مارون الراس. يشرح لنا أنّ صديقه بدا أكبر من حجمه في تلك الصورة. ربما هي نشوة الاقتراب من الحلم. ويتداعى المشهد في حكاية الصديق. النار في كتف عماد وفي قلبه. يستعمل يديه ليدلّنا على أماكن الإصابات. وعندما يصل إلى القلب يومئ برأسه: «عماد كان طيّب القلب». هناك قرب تلك الطيبة زرع الجنود رصاصة. تتسلّم شقيقته دفّة الحديث. شقيقته مثله لا تحب الكلام كثيراً. أرادت أن تقص شريط ذاكرتها، فموت عماد يتسرب منه موجِعاً إلى عينيها. كذلك أراد الصغير أن يضع حداً لهذا الشريط الفاصل بينه وبين التاريخ، فيقصّه بالقطّاعة، وباليدين العاريتين إذا استعصى الأمر. كان بريئاً لا يفهم في التعقيدات. تذكر شقيقته يومياته العادية. يوميات نموذجية للاجىء صغير. فقد سرقه العنوان من التفاصيل، حتى من دراسته. لا تذكر شقيقته السنة التي ترك فيها المدرسة. تدحرج الوقت سريعاً وصار الطفل دهّاناً. وربما، بلغت السرعة ذروتها في الليلة الأخيرة قبل مارون الراس. تنتهّد شقيقته هنا، وتروي. كأنه كان يعرف. تقول ذلك لسبب يصعب تفسيره. نوع من الأشياء التي يمكن أن تلامس القلب من دون القدرة على وصفها. شيء لا يمكن أن يعرفه أحد عن شهيد غير شقيقته.
قبل الحادثة بيوم، أيقظ عماد العائلة في وقت متأخر. اعتادوا أن يسهر مع رفاقة في المخيّم حتى ساعة متأخرة، لكنه كان هادئاً، ولم يوقظهم قبلاً. أحضر معه أطباق الفول. كأنه أراد «العشاء الأخير». أخبرهم الشاب «الورِش»، كما يحلو لأصدقائه وصفه، أنه أخذ «إجازة» من ربّ عمله. غادر ورشة العمل في درايا. غداً سيرى فلسطين مثلهم. لن يمنعه صغر سنه ولا رب عمله. وبفرح، نقل إليهم «المخطط». قضى الرفاق «سهرةً من العمر». سهرة بأحلام كاملة على بعد خطوات قليلة من القدس. أخبرهم أنه استعار القطّاعة (البانسة) من عدة العمل لأنه كان يخطط لقص الشريط الشائك الذي يفصله عن أحلامه. تتابع شقيقته: «فعل المستحيل لكي يذهب». مشى من باب بيته، عابراً أزقّة عين الحلوة الموشومة بصور «حنظلة»، إلى منطقة «الراهبات» في صيدا كي يحظى بمقعد في حافلة تقلّه إلى الحدود. اقتفى آثار ناجي العلي إلى فلسطين ولم يحظَ بحافلة. في المخيّم يتحدث الجميع عن قلة الحافلات. الجميع في عين الحلوة أراد الذهاب في ذلك اليوم. ومثلهم، كان عماد. لم يستسلم لامتلاء ثمانين حافلة أتت من أصل 200 كانت مخصصة لنقل المشاركين، ورافق عابرين آخرين في سيارة إلى مارون الراس. وكان المشهد في الصورة، أعلاه، آخر لحظاته، تاركاً القطّاعة، ومحتفظاً بالعَلم.
شاب آخر حمل العلَم قرب الوطن. عبد الرحمن صبحة كان أول المستجيبين للنداءات الآتية من الخلف «لا تتركوا العلَم، ثبّتوا الراية». ثبّتها عبد الرحمن. أطلق العدو النار، فالتوت. ضغط الشاب على قلبه وأعاد تثبيتها. فقتلوه. يسكت الوالد قليلاً. تعلق دمعة في عينه اليسرى. الأب الوقور كان مناضلاً في حركة فتح وآلمه «سقوط عبد الرحمن بلا بندقية». يطلق الوالد سلسلة من الآراء السياسية الغاضبة. لا يفهم كيف آلت الأمور إلى هذه الحال. أن يتقلص الحلم القديم من «التحرير» إلى «النظر». فلسطين قضية ثابتة لا «وجهة نظر». يستدرك الرجل المفجوع حزنه بابتسامة. فقد ورث الأب ابنه، واستشهد الأخير قبلاً، رغم جميع المعارك التي خاضها الأول، بحثاً عن لحظة الاقتراب من صفد، لكن عبد الرحمن مات عارياً من السلاح. لم يسقطوا عنه جواز السفر. عاش لاجئاً ومات لاجئاً. تركوا كفّه بلا شمس، كما يقول محمود درويش.
يدخل الأشقاء إلى غرفة الجلوس ويخرجون منها. لا يرغبون في الحديث. عبد الرحمن كان أكثرهم حماسةً واندفاعاً. هناك، حيث يستند الوالد الملتحي إلى جدار أبيض مهترئ، بقيت كلمة «مانو» بالأحرف اللاتينية موشومة عليه باللون الأسود. لا شك أن «مانو» هو الشهيد عبد الرحمن، صغير العائلة المؤلفة من والد ووالدة، وستة أبناء. عبد الرحمن ملاك هو الآخر، لكنه كان مختلفاً عن عماد. كان عبد الرحمن «فتحاوياً» مثل والده، ملتزماً الحركة وخيار مقاومة إسرائيل متى سنحت الفرصة. وقد كان موهوباً. لعب كرة القدم مع جميع فرق المخيّم، كما يقول والده مبتسماً. لا يلبث الوالد أن يوضح أن تلك الموهبة أبعدت ابنه عن مقاعد الدراسة.
كرة القدم بعد المدرسة، «فتح» بعد كرة القدم، و«الشهادة» بعد الحركة. حياة بسيطة في ظروف معقّدة، إذ كانت آخر مرة رأى فيها أهله قبل خمسة أيام من استشهاده. نادراً ما كان يجلس في المنزل الكائن في منتصف «حي الصفصاف». وسُميّ الحي بهذا الاسم نسبةً إلى سكانه، الذين يتحدرون من قرية الصفصاف في صفد. وللمناسبة، الحي معروف بأنه قلعة «عصبة الأنصار». الحركة السياسية التي تتبنى خيارات إسلامية أصولية. وقد كان عبد الرحمن ملتزماً دينياً، لكنه لم يكن مبالغاً في التزامه. كانت «روحه فكاهية» ويطغى الطابع الأوروبي على صورته. شعره مصفف بإتقان، على الموضة، وملابسه أنيقة. يصح وصف عبد الرحمن بالشهيد «الأنيق».
وعلى عكس عبد الرحمن، لم يهتمّ محمد أبو شليح بالتفاصيل. خرج الشاب العشريني صباح الأحد الشهير من مخيّم الميّة وميّة، برفقة والدته وشقيقاته الأربع «إلى فلسطين». المسافة بين مخيمي عين الحلوة والمية ومية قريبة. بالنسبة إلى محمد كانت مارون الراس أقرب. مارون الراس لم تكن «صدفة» ابتلعت أيامه. مارون الراس «فرصة». فهو، الشاب المتديّن، كان يتحدث طويلاً عن الذهاب إلى العراق لمقاومة الاحتلال الأميركي. الاحتلال هو الاحتلال. والشاب كان يبحث عن ساحة ممكنة، عن مكان للصراخ. كان «مقاوماً بالفطرة» كما تصفه والدته، التي عادت من منتصف الطريق ذلك اليوم، لأنها لم تجد لها مكاناً في الحافلات المكتظة. روى لها أصدقاؤه أنه تسلق إحدى الحافلات بالقوة. «عربش» عليها من الخلف، كما تشرح والدته بلهجتها الفلسطينية المحببة. ووصل في الموعد. الأم، التي تحب أن تعرّف عنه بكلمة واحدة: «وحيدي»، تسترسل في وصف ذلك النهار. حين أعادوه جلس في ساحة المخيّم و«صفن»، تقول. «تصفن» هي أيضاً وتفشي سراً حميماً.
في مارون الراس، مثّل الشاب العشريني مشهد موته وصوّره رفاقه. الوالدة تحتفظ بهذا الفيديو على الهاتف: محمد، حاملاً العلم الفلسطيني، ملوّحاً به بكلتا يديه، قبل أن يغرزه في الأرض بقسوة، ويسقط شهيداً، لكن محمد لن يشاهده. فقد حدثت الأمور كما في الفيديو تماماً. استشهد الشابّ، الذي انضم إلى صفوف «حزب الله» وخرج منه بعد عام، لأنهم «أجّلوا استشهاده». في 15 أيّار 2011 وجد محمد نفسه في مواجهة الوطن، فوهب أنفاسه الأخيرة للعودة.



الانتفاضة الثالثة

في 15 أيار عاد الفلسطينيون إلى تصدّر واجهة المشهد العربي. خرجوا في ذكرى النكبة إلى حدود فلسطين، أينما استطاعوا، في لبنان، سوريا، والأردن، وفي الأراضي المحتلة أيضاً. أشعلوا الجبهات واقتربوا بالآلاف من الوطن. لامسوا العودة، لكن عدد الشهداء كان مرتفعاً، في مارون الراس اللبنانيّة ومجدل شمس السورية. في لبنان وحده سقط 6 شهداء، بعدما أطلق جنود الاحتلال النار على الشباب العزّل الذين اقتربوا من الحدود، هم طليعة شهداء «الانتفاضة الثالثة»، كما يحب الفلسطينيون أن يسمّوها، يتوزعون على مخيّمات عين الحلوة، الميّة وميّة، البرج الشمالي، البص، والجليل.