تستفيق البحرين اليوم على رفع حالة السلامة الوطنية (الطوارئ) التي أنهكتها على مدى شهرين ونصف شهر. كان الأمل أن يطوي الملك حمد بن عيسى الصفحة، بإصدار أمر يُلغي أحكام الأعدام عن المتظاهرين، ويطلق سراح المعتقلين، ويفتح حواراً وطنياً مع المعارضة، كما تحدثت شائعات قُبيل إطلالته أمس، لكنّه خيّب تلك الآمال.
دعا الملك، بحسب ما أوردت وكالة الأنباء الرسمية من تصريحات مجتزأة، السلطتين التشريعية والتنفيذية إلى إطلاق حوار وطني شامل، من دون شروط مسبقة، ابتداءً من الأول من تموز، «ليبادر الجميع إلى الاشتراك فيه، ومن ثم تُرفع مرئيات الحوار إلينا لعرضها على المؤسسات الدستورية حسب اختصاصها». لم يذكر المعارضة أو وليّ العهد الذي كان قد كلّفه بالحوار في ما مضى. لكن بحسب التسريبات التي لم توردها الوكالة، قال إن «الرئيس الأميركي أخطأ لأن البحرين لا تقتصر على الوفاق». وسخر من المسيرات المتوقعة مع رفع حالة السلامة الوطنية عبر قوله «ألا يمتلك من يشارك في هذه المسيرات وظيفة؟». يبدو أن الملك نسي أن الحملة الأمنية في الأشهر الماضية نالت من أرزاق المواطنين عبر فصلهم من وظائفهم ومحاكمة من شارك في المسيرات. مضمون كلمته لا يدعو إلى التفاؤل، ولا سيما أنها استُبقت بخطوات غير مبشّرة، تمثّلت في استدعاء قيادة جمعية «الوفاق» المعارضة ونوابها إلى النيابة العسكرية. هكذا افتتح الملك مرحلة جديدة، لكنها مرحلة تكميلية لسابقاتها، ولن تكون في منأى عمّا فعلته أيدي النظام ضد الشعب البحريني على مدى أشهر مضت.
إن أمكن اختصار مأزق ثورة الأرخبيل، لكان ذلك في كلمتين، لعنة الدين التاريخية. بلد يتموضع بخجل بين عملاقين متجبّرين تحرّكهما غرائز المذهبية؛ الأول يلوّح له من وراء البحار متحسّساً عواطفه الإيديولوجية، والثاني يشدّه من خاصرته الجنوبية، مدّعياً أبوّة تتغذى من عقدة الهيمنة دون امتلاك الحق في معارضتها. ولكنها لم تمنع نشوء وترعرع حركات احتجاجية منذ عشرات السنين. الربيع الذي تشهده الساحات العربية لم يكن مشهداً جديداً على شعب البحرين. هو حركة اعتاد معايشتها منذ «غزو» أو «فتح» آل خليفة. ظنّ أنّ قوة رياح التغيير وأزهار الربيع العربي ستثمر في ربوعه، لكنّ لعنة المذهبية خيّبت أمله.
لاحت فكرة الانتفاضة مع ثورتي تونس ومصر. استعدّ الشباب لإعلان بيانهم الأول. كُتب وعُدّل أكثر من مرّة، لكنه حمل المضمون نفسه. دعا إلى «مسيرات سلمية وحضارية يومية اعتباراً من 14 شباط، والإفراج عن جميع المعتقلين، وإيقاف التجنيس السياسي والتحقيق فيه».
طالب شباب الثورة بإيقاف التعذيب وانتهاكات الحقوق، وتنحّي رئيس الوزراء، وحل البرلمان، وتحقيق التمثيل العادل، وإعداد دستور عقدي. مطالب إصلاحية تقترب من الملكية الدستورية. لم تذكر آل خليفة أو تدعو إلى إسقاطهم.
أمام مفاجأة ما صنعته ثورتا مصر وتونس، تحرّك نظام آل خليفة في إجراءات استباقية لتخفيف حدّة أي تحركات احتجاجية. أعلن الملك مكرمات وخدمات. إجراءات لم توقف التحرك الموعود. عشية 14 شباط، خرجت مسيرات في كرزكان أظهرت أن طريق الانتفاضة سيُروى بالدماء. انطلق يوم الغضب البحريني وخرجت مسيرات متفرقة. رُفع شعار «التظاهرات سلمية إلى حين تحقيق المطالب الدستورية». وسقط الشهيد الأول علي مشيمع. لكن ذلك أعطى دفعاً جديداً للمحتجين الذين واصلوا تحركاتهم في اليوم التالي وعينهم على دوار اللؤلؤة، لتكون ساحة مركزية للثورة، فسقط الشهيد الثاني. عندها بدأت الجمعيات السياسية المعارضة الأساسية اللحاق بقطار الثورة، فاستقلّته «الوفاق» وأعلنت تعليق نشاطها البرلماني.
في هذه الأثناء، بدا الملك متأثراً ومعزياً بشهداء الثورة، واعداً بالإصلاح والحوار. لكن في الوقت نفسه، شعر الموالون بخطر هذه الموجة، فقرّروا التصدي لها في الشارع من خلال مسيرات مؤيّدة للملك. فكان «الفاتح»، الذي يرمز إلى «فتح» آل خليفة للجزيرة، مقابل «اللؤلؤة».
الخبطة الأمنية الأولى أرادوها دموية. في الفجر الرابع للثورة، تسلل عناصر الجيش والأمن لمباغتة المحتجين نياماً في الدوار، وأمطروهم بالرصاص، فقتلوا 4 وجرحوا المئات. عملية شاملة. حوصر المحتجون ومُنعت الأطقم الطبية من الوصول إليهم، وانتشر الجيش في العاصمة وضواحيها. عملية وحشية دفعت بالمعارضة إلى الانسحاب من مجلس النواب.
وسط تنديد محلّي ودولي أمام استباحة الدماء، أطلق وليّ العهد مبادرة للحوار بتكليف من الملك وبترحيب دولي وخليجي، وأمر بسحب الجيش من العاصمة. عاد الهدوء الحذر، واستعاد المحتجّون شارعهم ودوارهم.
وبسبب تركيبة المجتمع البحريني، سخّر النظام عنصر المذهبية، فبات الشارع شارعين. واشتدت المنافسة بين «الفاتح» و«اللؤلؤة». من الساحة الأولى، انبثق تجمّع سياسي أعلن نفسه قوة أساسية في مشروع الحوار ورقماً صعباً في المعادلة البحرينية. قاد هذه القوة الرجل النافذ لدى النظام عبد اللطيف محمود وشخصيات سنيّة. اشتمّت المعارضة في هذا التجمّع «الوحدة الوطنية» رائحة مؤامرة من قبل النظام، واعتبرته تكملة لمشروع بندر الاجتثاثي. في مقابل هذه التحركات السياسية، تواصلت المسيرات والاشتباكات. ومع سقوط الشهيد السابع، أطلق الملك مبادرة إيجابية، فأطلق سراح عدد من المعتقلين السياسيين، وأمر بإيقاف السير في بعض الدعاوى. خطوة مهّدت لعودة الزعيم المتشدد للمعارضة، الأمين العام لحركة «حق» حسن مشيمع. استكملها الملك بإقالة 4 وزراء. في هذه الأثناء، تحركت واشنطن وأرسلت رئيس هيئة الأركان مايكل مولن إلى المنامة.
الفعاليات الاحتجاجية نشطت بأشكال جديدة. سُيّرت تظاهرات باتجاه المرافق الحيوية، مبنى التربية والإعلام والداخلية، وأُقيمت سلسلة بشرية أمام مجلس الشورى. انضمت المدارس إلى الاحتجاجات، وشهدت ملاعبها انقسامات واشتباكات دقّت ناقوس الخطر. كذلك فعلت الجامعات، ونالت منها اشتباكات ذات بعد طائفي. ووقع المحظور. بلغ التأجيج الطائفي الخط الأحمر، ورُفع سقف الشعارات إلى إسقاط النظام، وعلت أصوات تهاجم حمد وآل خليفة. تكلّمت السعودية، وأعلن جناحها المتشدد نايف بن عبد العزيز أن أمن البحرين من أمن السعودية.
في أوائل آذار، دخل جيفري فيلتمان المنامة، فيما كان وليّ العهد يجول في الخليج للحصول على مباركة لحواره. لكن مع تأخر هذا الحوار، صعّدت المعارضة في الشارع بتكثيف المسيرات والسلاسل البشرية، وحوصر مقرّ الحكومة. دعوات إلى التهدئة والحوار وتحذيرات من التحشيد الطائفي وحركة دبلوماسية أوروبية، لم تمنع من تصاعد حدّة هذه الاحتجاجات والتوترات الطائفية، التي بلغت ذروتها مع الإعلان عن مسيرة في عقر دار الديوان الملكي، منطقة الرفاع.
باءت محاولات بعض القوى السياسية لمنع هذه المسيرة بالفشل. سارت التظاهرة ووصلت إلى أبواب الرفاع، وهتفت فليسقط حمد، والقوى الأمنية تُراقبها، وتسمع وتحمي المنطقة بطوق بشري. مرّت المسيرة بسلام، لكنها لوّحت بما هو أعظم. بالتزامن مع المسيرة، وصل وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، فيما قطع محتجّون طريق الملك فهد وأغلقوا المرفأ المالي. وقعت اشتباكات وإصابات، وبعدها بيوم بدأت طلائع سعودية من قوات «درع الجزيرة» غزو المملكة.
دخلت بعدها الانتفاضة في مرحلة جديدة من العقاب والتدويل. أُعلنت الأحكام العرفية، وسُلّمت البلاد إلى قوة الدفاع بقيادة خليفة بن أحمد، شقيق رئيس الديوان خالد بن أحمد، الجناح المتشدّد الذي يتبع نايف السعودي، وتوارى وليّ العهد عن الأنظار، وأُشير بأصابع الاتهام للمرة الأولى إلى طهران بتحريك الشارع البحريني.
في الشارع، انطلقت حملة أمنية غير مسبوقة على مختلف المستويات. عمليات «تمشيط وتطهير» لإخلاء الشارع من المحتجين لم تخل من الاشتباكات والقتلى، دفعت إلى استقالات جماعية للشيعة من المرافق الحكومية، استُتبعت بحملة اعتقالات طالت قيادة المعارضة، وانتقلت إلى الجسم الطبي البحريني فعاثت فيه تنكيلاً واعتقالاً.
بتدويل الأزمة، نشطت الوساطات الدولية، من كويتية وتركية، باتجاه دول صنع القرار في الرياض وطهران، مع تصعيد الحملة ضدّ إيران.
من الحملة على الأطباء، انتقلت القوات البحرينية وحليفتها إلى استهداف دور العبادة، وظهر شكل غير مسبوق في المملكة من خلال تطبيق نظام وهّابي عبر إزالة الأضرحة ومنع الاحتفالات الدينية. بعدها أتى دور الطلاب والمدارس والجامعات، فأُوقفت العشرات من البعثات الدراسية لطلاب متعاطفين مع الاحتجاجات. وتواصل مسلسل العقاب لينال الموظفين عبر حملة فصل وتحقيقات شملت المئات، ثم الصحافة بإيقاف صحيفة «الوسط»، وطرد رؤساء تحريرها، وإحالتهم على التحقيق. وهنا لا بد من تأكيد الدور المحوري الذي أدّاه تلفزيون البحرين في حملات التحريض والعقاب. على مستوى الجمعيات السياسية، أُوقفت جمعية «وعد» اليسارية، ولُوّح بإيقاف جمعيّتي «الوفاق» و«العمل» قبل أن تتراجع السلطة. لبنان أيضاً دخل إلى الأزمة من بوابة حزب الله. تعرّض اللبنانيون لحملة عقاب واسعة من قبل سلطات المنامة. واتهم وزير خارجيتها الحزب بالتدخل في الأزمة والإشراف على الحركات الاحتجاجية.
دول الخليج اتفقت على إطفاء انتفاضة شعب البحرين، خوفاً من انتقال الشرارة إلى ربوعها، وصعّدت تحركاتها ضدّ إيران، متّهمة إياها بالوقوف وراء الاحتجاجات. ولم تر في الشعب الأعزل سوى مجموعة طائفية. غداً يومٌ آخر، لكن العقاب كان شاملاً. تُرك الشعب البحريني وحده. اكتفت بعض الأصوات بالتنديد ووقف الانتهاكات، لكن لا حياة لمن تُنادي. التقاء المصالح الإقليمية والدولية خنق صوته. أنهكه التحامل على حقوقه. قد يكون نظام آل خليفة أطفأ شعلة الانتفاضة، ولكنه زرع بذور ألمٍ وحقدٍ وطائفية بغيضة، الخوف كل الخوف أن تنمو هذه البذور وتنضج وتعود لتنتقم.



النيابة العسكرية تستدعي علي سلمان

قامت الأجهزة الأمنية والعسكرية في البحرين، أمس، بسلسلة من الاستدعاءات عبر القضاء العسكري للتحقيق مع عدد من المعارضين السياسيين والناشطين والموظفين في بعض الوزارات. وفي مقدمة هؤلاء، الأمين العام لجمعية «الوفاق» الشيخ علي سلمان ونواب «الوفاق» المستقيلين خليل مرزوق وعبد الجليل خليل ومحمد المزعل، الذين كان لهم ظهور إعلامي وميداني لافت. كذلك استُدعي الناشط الحقوقي ورئيس مركز البحرين لحقوق الإنسان نبيل رجب.
ويبدو أن هذه الاستدعاءات هي من بنات أفكار وزير الديوان خالد بن أحمد للتعبير عن مدى الاستياء من نشاط هؤلاء طوال قانون السلامة الوطنية. لكن مصادر قالت لـ«الأخبار» إنه يتوقع إخلاء سبيلهم في غضون ساعات قليلة، حيث إن النظام غير مستعد للمجازفة بصبّ الزيت على النار وإبقاء الأمين العام لـ«الوفاق» في اللحظات الأخيرة من قانون السلامة الوطنية.
(الأخبار)