تونس | لا تختلف القراءة التونسيّة لخطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما عمّا هي عليه في باقي المناطق العربية. لكن الفارق أن الرئيس الأميركي خصّ تونس ومصر باستراتيجية، واختار لذلك الحديث عن حل سحري لمعالجة المشاكل السوسيو اقتصادية التي نخرت النسيج الاقتصادي لهاتين الدولتين. وكأن لسان حاله يقول إن على الدول الساعية إلى الإصلاح، أن تلتزم بالصيغ الأميركية لذلك.ولعل ما تحدث عنه أوباما في خطابه يرتكز على النهج نفسه الذي اتخذته الولايات المتحدة منذ السبعينيات. فالقيم الأميركية التي يروّج عليها أوباما هي النقاط نفسها التي أتى بها هنري كيسنجر، تلك الصيغة التي تنتهج فيها الولايات المتحدة لغة السوق في ممارسة السياسة الدولية. فخطاب الرئيس الأميركي يتحدث صراحة عن ذلك؛ فقد أعلن أن الربيع العربي يمثّل «فرصة لنشر القيم الأميركية في الشرق الأوسط»، وأن بلاده تعمل لتساعد الاقتصاد التونسي والمصري على تجاوز محن ما بعد الثورة.
لكن ما قاله أوباما لم يُسمع فقط هذه المرة؛ فمنذ كانون الثاني الماضي، زار تونس 7 مسؤولين أميركيين مرموقين، بينهم وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومساعدها للشرق الأوسط جيفري فيلتمان والسيناتوران جوزيف ليبرمان وجون ماكاين، حيث كانت اللهجة نفسها موجودة، لغة قائمة على معادلة معينة، نحن ندعمكم إذا ما سرتم في الطريق الأميركي.
في تونس، يقول محللون إن أوباما اختار هذا التوقيت بعد تبصر كبير، وتأكد أن البلدين يعانيان فعلاً أزمات اقتصادية حادة، جاء تعبيرها واضحاً في خطابين: الأول للباجي قائد السبسي، وثانيهما للمتحدث باسم المجلس العسكري الحاكم في مصر. الأول قال إن «تونس على شفا حفرة»، والثاني أعطى انطباعات اقتصادية كارثية من حيث ازدياد المديونية وتراجع الإنتاج العام.
وجاءت كلمة الرئيس الأميركي بعد شهور عديدة من النقاش مع أقطاب إدارته ومع آخرين خارجها، للوصول إلى مقترح من شأنه ضمان استمرار المصالح الأميركية في المنطقة في إطار التغييرات الحادثة وثورات شعوبها. وقد لبّى أوباما نصائح البعض ممن طالبه بالإسراع باحتواء تغييرات غير متوقعة الحل، فسارع مع مساعديه إلى إعداد خطة عمل لمساعدة مصر وتونس اقتصادياً للمساهمة في خلق نموذج ديموقراطي يحتذي به الآخرون وفق النظرة الأميركية.
الجزرة الأميركية الجديدة للعرب لم يُلوِّح بها البيت الأبيض، بل مقر وزارة الخارجية، ليذكّر باللحظة التاريخية التي أعلن فيها جورج مارشال، وزير الخارجية الأميركية في عام 1947، مشروع مارشال الذي كان من أساسياته مساعدة أوروبا العجوز الهرمة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مضرّجة بدمائها، وليكون هذا المشروع بداية مبدأ الزعامة الأميركية للمعسكر الديموقراطي الغربي ضد الشيوعي الشرقي.
ومشروع أوباما، أو مشروع مارشال الجديد، أفصح عن خطوطه العريضة مستشار مجلس الأمن القومي الأميركي الأسبق جيمس جونز، قبل ثلاثة أيام من إعلان أوباما، حين اقترح تقديم حزمة مساعدات لمصر، وقال: «عندما ننظر إلى الدول ذات الأهمية الاستراتيجية نجد تفرد مصر في المنطقة، ويكفي أنها لم تتحول إلى إيران قبل ثلاثين عاماً، والأحداث الأخيرة في المنطقة هي صحوة لجيل كامل أدرك غياب الإصلاحات».
وثائق ويكيليكس، من جهتها، فسرت جيداً النظرة الأميركية لتونس، وأكدت تلك الزاوية الأمنية التي تربط بها الموقع الاستراتيجي لتونس، والأخطار الحقيقية التي يمكن أن يسببها الإرهاب «القاعدي» على المصالح الأميركية في المنطقة بالامتداد إلى مستوى البحر المتوسط والشريط الساحلي القريب من أوروبا، وما قد يطرح ذلك من مشاكل اقتصادية قد تؤثر في رؤوس الأموال والاقتصاد الفعلي في الولايات المتحدة.
ولعل ما قد يكون عليه هذا المشروع هو إرساء مجال جديد قد يستطيع الدولار الأميركي اللجوء إليه، في وقت تعرف فيه العملة الخضراء ضربات قد تنزلها من عليائها، وهو ما يمثّل فرصة سانحة مع تراجع اليورو، في ضوء سياسات التقشف التي خنقت الاقتصاد الأوروبي، وفي وقت تمارس فيه أوروبا سياسة لا تستسيغها بلدان جنوب المتوسط، وخصوصاً في ما يتعلق بملف الهجرة غير الشرعية.
لذلك، إن مشروع الرئيس الأميركي الجديد قد يحمل سمات جيدة بالنسبة إلى حل المشكلات التي تطرحها بلدان الجنوب بالنسبة إلى أوروبا، وقد تساعد على حل تلك المشكلة التي يشتكي منها الرؤساء الأوروبيون، فيما بدأت أميركا بمحاورة الإسلاميين للوقوف على نظرتهم في حال وصولهم إلى السلطة ضمن هذه المرحلة الانتقالية. فالسفير الأميركي في تونس غوردن غراي قالها بصريح العبارة: نحن نتحادث مع الإسلاميين قبل الثورة وبعدها.