لا شك في أنّ التغيُّر الذي طرأ على نوعية العلاقات التركية ـــــ السورية قد كسر رقماً قياسياً من ناحيتين: سبق لتلك العلاقة أن انتقلت بسرعة من حافة الحرب في أواخر تسعينيات القرن الماضي، إلى الغرام المتبادل في غضون فترة قصيرة نسبياً. لكن ما بدا كأنّه فترة قصيرة، صار مرحلة طويلة مقارنة مع سرعة تدهور العلاقة بين البلدين، وذلك من باب الأزمة السورية الداخلية. أزمة ارتأت أنقرة أن تتعامل معها من منطلق أنها شأن داخلي تركي، لتكون الاستحقاق الأخطر على الإطلاق على العلاقات التركية ــــ السورية، والتي تهدّد بإعادة تلك العلاقات، في حال بقاء نظام بشار الأسد، إلى المربّع الذي كانت عليه قبل «الصفقة الكبيرة» التي تمثّلت في طرد الرئيس الراحل حافظ الأسد زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان من الأراضي السورية، في شباط 1999.
على حسابات الورقة والقلم، لم يكن الموقف التركي الضاغِط على الأسد وعلى نظامه متوقعاً قبل اندلاع الحراك الشعبي؛ فشروط الجغرافيا التي أوجدها حكام «العدالة والتنمية» و«البعث» بين دمشق وأنقرة، منذ وصول أحفاد نجم الدين أربكان إلى الحكم في تركيا ووفاة حافظ الأسد في دمشق، وصلت بوزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو إلى اعتبار أنّ الحدود في المنطقة، وبين تركيا وسوريا، هي حدود «مصطنعة ويجب إزالتها»، وسط ترحيب النظام السوري في حينه بهذه «النظرية». كذلك فإنّ ظروف السياسة دفعت كلاً من سوريا وتركيا إلى دعم أحدهما الآخر في أكثر الملفات حساسية. فتركيا ــــ العدالة والتنمية «عادت» إلى المنطقة العربية من البوابة السورية، الدولة العربية الوحيدة التي تتشارك معها الحدود (نظراً إلى كرديّة الإقليم العراقي الحدودي)، وخصوصاً منذ أن قرّرت تركيا الوقوف ضد احتلال العراق وأقفلت أجواءها وبرّها أمام الغزو الأميركي لبلاد الرافدين. هي «تعرّفت» إلى أصدقائها الجدد، حزب الله وحركة حماس، من خلال العرّاب السوري، ورفعت شرط تأشيرة الدخول عن مواطني 9 دول عربية ابتداءً من الجار السوري أيضاً. صارت قادرة على التعاطي مع الغرب عموماً من منطلق أنها الأخبر والأقدر في المنطقة، عن طريق أدوارها التي أدّتها بفضل الصداقة مع سوريا ــــ بشار الأسد تحديداً (في الوساطة مع إسرائيل، وتحدّي الدولة العبرية، والتوسط في أزمات الملف النووي الإيراني، والمعضلات اللبنانية المتتالية والخلاف الفلسطيني الفصائلي...). هي نفسها تركيا ــــ العدالة والتنمية التي حلمت بإنشاء اتحاد متوسّطي اقتصادي وسياسي على طريقة الاتحاد الأوروبي، بفضل حجر الزاوية السوري تحديداً، لتوسّعه إلى منطقة تجارة حرة لم تولَد على أي حال مع سوريا ولبنان والأردن. تركيا هذه عادت لتحلم بأن تحلّ أزمتها الكردية المستعصية بمساعدة سوريا ــــ بشار الأسد خصوصاً، مع طلبها أن تقوم دمشق بدور فاعل في العفو عن المقاتلين السوريين في حزب «العمال الكردستاني»، وأن تستوعب عائلاتهم وتدمجهم في المجتمع السوري مع إعادة الجنسية السورية إليهم.
والعلاقة الحارّة لم تكن من جهة واحدة؛ فقد استفادت سوريا كل الاستفادة من الشقيق التركي الأكبر. ففي زمن كان التحدث فيه مع السوريين أكبر محرم سياسي في لغة الأميركيين والغربيين عموماً والمعتدلين العرب، كان رجب طيب أردوغان يفكّ الطوق المفروض على السوريين، ويدافع عنهم في السياسة وفي الصفقات والمشاريع الاقتصادية الكبيرة وفي مجلس الأمن بعدها، وفي واشنطن وفي باريس وفي حرب لبنان والعدوان على غزة.
جميعها إشارات لعلاقة تجازوت البنى الفوقية للصلات بين الدول، لتصل إلى نوع العلاقة الاندماجية بين سوريا وتركيا، ولتتخطّى صداقات الرؤساء وأحلاف الكبار، نحو صلب المجتمعين السوري والتركي، وهو ما كان من الطبيعي أن ينعكس على السياسات الخارجية التركية والسورية على حدّ سواء. هكذا صارت الذاكرة الجماعية السورية قادرة على تأجيل التفكير في ما كان يُعرَف بـ«اللواء السوري السليب»، مع اعتراف القيادة السورية ضمنياً، منذ عام 2004، بتركيّة الإسكندرون. هي الذاكرة الجماعية السورية نفسها التي باتت متأقلمة مع مصطلحات من نوع «المحور السوري ــــ التركي» (يُضاف إلى أطرافه إيران حيناً، وقطر وحزب الله وحماس أحياناً). محور كان الجميع يتحدثون عنه إلا الأتراك.
ولم يكن انتشار المعاهد التي تعلّم اللغة التركيّة في حارات دمشق وباقي المناطق السورية، واحتلال المسلسلات التركية باللهجة السورية شاشات العرب، إلا علامات تنتهي بحديث الاقتصاد والمال والملايين والاستثمارات، حيث تجاوز التبادل التجاري بين سوريا وتركيا حاجز الملياري دولار سنوياً، بعدما كان أقل بكثير من هذا المبلغ قبل سنوات قليلة.
تركيا ــــ العدالة والتنمية التي انتشلت سوريا من العزلة التي فُرضت عليها منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، فاجأت الجميع عندما انحازت إلى صفّ المتظاهرين في وجه نظام أعز أصدقائها، بشار الأسد. فما الذي حصل لكي ترمي كل ما بنته على مدى تسع سنوات جانباً، وترفع شعار المتظاهرين السوريين؟ وهل فعلاً وقع الأتراك في حب الشعوب، وأعطوه الأولوية على حساب مصالحهم الاقتصادية والسياسية؟
لقد صُدم الأتراك، كالعالم بأسره، بانتفاضة الشعب التونسي. كان ارتباكهم واضحاً، لكنهم سارعوا إلى تعميم سياسة واحدة يُعبَّر عنها بالعبارة نفسها التي تحمل في طيّاتها رباعياً مقدَّساً: ندعم مطالب الشعوب، ولا للتعامل بالقوّة مع التظاهرات السلميّة، وأمام الحكام المهدَّدين وقت ضيق لإحداث التغيير، وممنوع التدخل الخارجي في شؤون الثورات العربية، أي إن على التغيير أن يكون محلّي الصنع بالكامل.
موقف عمّمته أنقرة على جميع الانتفاضات العربية، من ضمنها البحرين، من دون أن تخاف «المحظور الشيعي»، فإذا بدولة سنيّة بمستوى خليفة الإمبراطورية العثمانية تتحدّث على لسان أردوغانها عن الخشية من حدوث «كربلاء جديدة».
طبعاً، تفاوتت نبرة التعاطي التركي مع الثورات العربية بحسب الأهمية التي تكتسبها كل دولة بالنسبة إلى تركيا ومصالحها. ولمّا جاء الدور لسوريا، كان الاستحقاق الأصعب. ولأنه كان من الطبيعي أن يكون الأصعب، حاول الأتراك استباق الأزمة، فكثرت زياراتهم واتصالاتهم بالمسؤولين السوريين منذ انتهاء الانتفاضة التونسية. زيارات واتصالات امتلأت بالنصائح والضغوط الناعمة وعروض المساعدة على قاعدة «لا تحرجوا أنفسكم وتحرجونا معكم. رياح الشعوب آتية لا محالة إلى سماء الشام. استبقوا العاصفة وقوموا بما من شأنه أن يجعل من قيادة الأسد هي الأذكى بين جميع الأنظمة العربية. لا تكابروا ولا تتكبّروا. اسمعوا نصيحة الشقيق التركي الأكبر الذي وقف معكم في أصعب أزماتكم حتى لا تضطرّوا لاحقاً إلى الإذعان تحت الضغوط والعقوبات الأجنبية». نصيحة باكرة اعترف أردوغان وصحبه بتوجيهها إلى الأسد وفريقه الحاكم، ورأوا أنها لم تقابَل إلا بشبه استخفاف القيادة السورية والأسد تحديداً، على شاكلة ما نطق به إلى صحيفة «وول ستريت جورنال»، في ردّه على سؤال عن احتمال انتقال الحراك الشعبي إلى سوريا.
مرّت الأيام ولم تنقطع الاتصالات ومعها النصائح التركية، إلى أن بدأ كل شيء من درعا. حينها، تسارعت وتيرة الضغط التركي. وكان لسان حال الأتراك يقول «لو كان الأمر بيدنا، لفضّلنا أن يبقى صديقنا الأسد في منصبه. لكن القرار يعود إلى الشعب السوري وحده. وهذا الشعب لديه مطالب محقّة، ومواجهة مطالبه بالحديد والنار من شأنها تحويل مطالب الإصلاح إلى إصرار على تغيير النظام. ألم يشاهد المسؤولون السوريون ما حصل في مصر وأخواتها؟». هكذا، لم يكن يمرّ يومان أو ثلاثة إلا تطأ القصور الرئاسية السورية أرجل مبعوثين أتراك. زيارات حُصرَت الأهداف المتوخّاة منها في محاولة إقناع الأسد ورجاله بضرورة الإصلاح السريع، الحقيقي لا الشكلي. لكن الخطاب الشهير للأسد أمام مجلس الشعب السوري أفهم الأتراك الرسائل: الرجل يتحدث عن مؤامرة «يشارك فيها أصدقاء وقريبون وبعيدون»، لا عن حقوق مشروعة. لم يشر إلى شهداء درعا، ولم يعلن إصلاحات قريبة وطارئة، بل مشاريع إصلاحات تخضع لتوقيت النظام السوري ومزاجه، وأي نصيحة من الأصدقاء ستوضع في خانة الضغط غير البريء.
خطاب الأسد استُقبل بسلبية في أنقرة التي وصفته بأنه غير كافٍ، وهو ما دفع بوتيرة الزيارات التركية إلى أن تتضاعف. من داود أوغلو إلى الزيارات الكثيرة، العلنية منها والسرية لمدير الاستخبارات التركي حقان فيدان، ووفد مديرية شؤون التخطيط الإدارية، جميعهم موفدون حملوا إلى القيادة السورية ترجمات إلى العربية للقوانين التركية الحديثة في مجالات تعدُّد الأحزاب واستقلالية القضاء ومكافحة الإرهاب وإلغاء المحاكم الأمنية والإصلاح الإداري وتحرير الإعلام والانتخابات، ووجهوا دعوات رسمية إلى طواقم الحكومة السورية لزيارة تركيا وتلقّي المزيد من الاقتراحات وأفكار المشاريع الإصلاحية، ولاستلهام ما يمكن نقله من التجربة التركية إلى سوريا. كان حرص القيادة التركية كبيراً على إيصال الرسالة الصحيحة إلى الأسد: نحن حريصون على بقائك في الحكم، لكن يستحيل حصول ذلك إن بقيت كل الصلاحيات منوطة بك وبالدائرة الضيّقة من أقاربك ومساعديك وحزبك. شعبك يحبّك على الصعيد الشخصي، لذلك ليس عليك أن تصرف من هذا الرصيد. استعجل القرارات الجريئة لكي تبقى رئيساً، لكن لنظام آخر، نظام تعدُّدي منفتح ومتصالح مع شعبه.
كلام ومشورة يرى الأتراك أن المطاف انتهى بهما إلى تجاهل سوري تُرجم بطريقتين: تصعيد من وتيرة العنف في حق المتظاهرين، وزيادة في جرعة الهجمات الكلامية في الإعلام السوري ضد تركيا ــــ أردوغان، لتصبح صحيفة «الوطن» الوكيل الحصري لكيل الانتقادات العالية النبرة ضد تركيا، وأردوغان وداود أوغلو على وجه الخصوص. تمحورت الحملة الإعلامية السورية حول عناوين عديدة: استضافة إسطنبول مؤتمراً للمعارضة السورية في شهر نيسان الماضي، بعد فترة قصيرة من مؤتمر صحافي عقده القيادي في حركة الإخوان المسلمين السوريين محمد رياض الشقفة في عاصمة السلاطين أيضاً. مذمّة لم يجد الأتراك لدحضها سوى التأكيد أن تركيا دولة ديموقراطية، أراضيها ومنابرها مفتوحة لكل شخص لديه ما يقوله، شرط ألا يحرّض على العنف أو الطائفية. والعنوان الثاني الذي أزعج السوريين كل الإزعاج، هو التظاهرات الروتينية التي تشهدها المدن التركية في كل يوم جمعة، لدعم المتظاهرين السوريين ومؤازرتهم، إضافة إلى استسهال انتقاد النظام السوري على صفحات الجرائد الأقرب إلى حكومة «العدالة والتنمية». هنا أيضاً يستغرب الأتراك هذا الانزعاج السوري. أولاً، لأنّ تركيا دخلت مرحلة الديموقراطية منذ خمسينيات القرن الماضي، وبالتالي فإن التظاهر مسموح به لأي مجموعة، شرط ألا تتعرض بالأذى للأملاك العامة والخاصة، ولا تنادي باستخدام العنف أو وسائل «إرهابية». ويذكّر البعض في تركيا بأنّ لدى آلاف الأتراك أقارب في سوريا المجاورة، فـ«كيف يتوقع النظام السوري ألا يحرّك هؤلاء ساكناً عندما يرون ما يحصل في المدن السورية؟». ثانياً، إنّ الإعلام التركي نشيط، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن تضغط الحكومة التركية عليه لعدم نشر مقال هنا وتقرير هناك، مع أنّ بعض المطّلعين على تفاصيل المطبخ التركي يعلمون أن أردوغان كان يفضّل شخصياً، وفي قرارة نفسه، لو تؤجّل بعض المقالات عن سوريا في بعض الصحف المقربة من حزبه. وفي جعبة الأتراك كمّ كبير من الأمثلة عن حرية الإعلام عندهم، إذ على سبيل المثال، غالباً ما يتعرض أردوغان ووزراؤه للانتقاد الشرس في صحف محسوبة على حكومته وحزبه، أو على القاعدة الإسلامية التي تحتضنهم، كـ«ستار» و«زمان» و«تركيا» و«يني شفق» و«وقت»، من دون أن يكون رئيس الحكومة قادراً على فعل أي شيء. فكيف بالأحرى عندما يصبح الأمر متعلقاً بأزمة دنا أردوغان من تشبيهها «بأحداث» حلبجة وحماه؟