I هيكل سيدلي اليوم بشهادته عن «مليارات مبارك» أمام جهاز الكسب غير المشروع. ماذا سيقول؟ الجهاز استدعى «الأستاذ»، بعدما قال في حوار مع «الأهرام»: «إنّ من يريد أن يتحدث عن ثروة مبارك في الخارج، فأنا لا أقتنع إلا بمعلومات موثّقة من مصادر دورية محترمة»، مشيراً الى أنه قرأ بنفسه تقريرين: الأول بمعلومات متوافرة لدى البنك الدولي، وهي متوافقة مع تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وتتحدث عن هذه الأموال الموجودة في الخارج وتقدّرها بما بين 9 مليارات و11 مليار دولار. وهذا في حد ذاته رقم مهول.
أما التقرير الثاني، وطبقاً لتقارير اتحاد البنوك السويسرية والحكومة السويسرية، فإن هناك حسابات لـ 9 أشخاص من عائلة مبارك موجودة في بنوك سويسرا مقدارها 512 مليون فرنك سويسري، أي ثلاثة أرباع مليار دولار، ولقد تأكد هذا الرقم رسمياً تقريباً لأن الوفد السويسري، الذي زار مصر أخيراً لإبلاغها بحسابات أسرة مبارك، أشار إلى ذات الرقم، وأبدى الاستعداد لإعادته إلى الحكومة المصرية فور صدور حكم قضائي مصري. هيكل قال ذلك بينما تسير تحقيقات «الكسب غير المشروع» الى أرقام أقل، ويسير الحل السياسي لمحاكمة مبارك باتجاه «العفو» مقابل التنازل عن ثروته (المسجلة لدى الجهات القضائية بأرقام تدور حول الـ 100 مليون جنيه)، إضافةً الى كلمة اعتذار يوجّهها مبارك إلى الشعب المصري.
جهاز الكسب غير المشروع استدعى هيكل ليسأله عن مصادر كلامه عن ثروة مبارك. هيكل أكد أمام حفل استقباله في الأهرام: «إنني ذاهب إلى الجهاز احتراماً لمؤسسة القانون، وتقديراً لرجالها وليس لدي ما أضيفه بخصوص ما ذكرته عن ثروة مبارك، فأنا لست خبيراً في هذه الثروة، وتخصصي هو في الاستراتيجيات والسياسات التي تعارضت بمقتضاها مع مواقف لمبارك، ومع السادات من قبل».
هل هذا تراجع، أم «جر ناعم»، كما يقول المصريون، أم أن هيكل في مرمى صفقات أخرى تخص النشاط المالي لعائلته؟

II
يحلو للبعض استخدام نظرية المؤامرة، التي يبدو هيكل مغرماً بها، مع هيكل نفسه. التفسيرات قالت: «هيكل خفض من نبرته لكي لا تطاول المحاكمات ابنيه الشهيرين في عالم الأوراق المالية، والموصوفين بأنهما «شريكا جمال مبارك أو صديقاه». الحكاية لم تخلو من بهارات: هروب أحمد هيكل بعد اتهامه في قضايا تتعلق بنشاط شركته «القلعة»، ومن قبلها «هرميس»، التي كانت إحدى واجهات مبارك في اللعب بالبورصة.
وما علاقة هيكل؟ هيكل خفض نبرته بعدما بدا أن إيقاع محاكمة ابنيه يتسارع، هكذا قالت التأويلات المفرطة، رد عليها هيكل للمرة الأولى في حوار «الأهرام» متجاوزاً تابو الكلام عن عائلته، وقال «ترددت إلى حد العذاب قبل أن أكون مستعداً للكلام فيه، لكنني أشعر بالأسف، فربما كانت حكاية نجل هيكل مرجعها قول أو موقف للأب، وقع بسببه خلاف من أطراف، ثم انسحب تأثير الخلاف على أقرب الناس إليه وذلك يحزنه، وفي نفس الوقت فإن بين هؤلاء الأقرب من يخشي أن يكون قد أساء إلي ببعض ما نشر، وذلك يحزنه هو الآخر، ولو أن ما نشر كان صحيحاً لكانت تلك هي الإساءة، أما وأنا أعرف الحقيقة، فقد رضيت الانتظار حتى لا يظل هناك مجال لالتباس أو ظن، بل وكنت أؤثر السكوت، لكن تلك العناوين الصارخة عن نجل هيكل لم تترك لي خياراً غير العذاب بين نقيضين:
عذاب الصمت، أو عذاب الكلام، وأقول مباشرةً إنني أعلم بثقة أن أحداً من أبنائي لم يكن لا صديقاً ولا شريكاً لأحد من أسرة الرئيس السابق مبارك، وحتى لو تصور أحدهم مثل هذه الصداقة أو الشراكة، لصد الطرف الآخر وأعرض، لأن الكل يعرف من موقفي ما هو معروف، مما لا سر فيه».
التداخل في مستوى العلاقات المالية والسياسية والعائلية، يبدو من خصائص الجمهورية القديمة، بتحكم أجهزتها المتسلطة في كل شيء، وهو ما يعني عند قراء هيكل المتوجسين من أفكار نجم عصور الجنرالات المتباينة، أنه تمرير لسيطرة الجيش على الجمهورية الجديدة، باعتباره الجسم الصلب.

III
هل يبقى الجسم الصلب، هو مركز الجمهورية الجديدة؟ تبدو حماسة هيكل للثورة، قديماً أحياناً، أو وفق صراعات القوى في الدولة كما تركها آخر مرة.
هيكل «ابن الدولة» كما بنتها شرعية «الجنرالات» في تموز 1952، البعض يعدّه «شريكاً» في السلطة أيام عبد الناصر. الزعيم الملهم يحتاج دائماً إلى صانع الأفكار، ومهندس العمليات. يحتاج الى صحافي موهوب في صناعة صورة للنظام. هيكل هو صانع الصور السياسية.
هذه هي مهارته الأولى والمهمة التي احتاج إليها السادات في بداية عهده، حين مهّد له هيكل الجسر الى السيطرة الكاملة على السلطة في صراعه مع مجموعة موظفين في الدولة الناصرية سمّتهم أجهزة الإعلام وقتها «مراكز القوى»، لكن السادات تخلص من هيكل بطريقة مهينة وجعله يقرأ خبر إبعاده عن «الأهرام» في الصحف مثل ملايين القراء.
في الحالتين كان هيكل ابن الدولة. أو خبيرها الكلاسيكي. تجاوز دور «الصحافي العادي» الى مهمة حامل الرسائل الى الشعب والمشارك في صناعة عقل النظام. وهيكل بخريطة علاقاته الواسعة تمكّن من صنع «مكانة» له، أسهم فيها تاريخه الصحافي والسياسي. وزاد عليهما بانشغاله الدائم بتقنيات
الصحافة: المعلومات والكواليس.
ورغم أنه حرم من وثائق عصور ما بعد عبد الناصر، حجزت له زياراته الجديدة للتاريخ مكاناً متميزاً في عالم الصحافة، وإن لم يحصل على «دور» في سياسة مبارك. هل كان هيكل ينتظر موقع المستشار لنظام مبارك، أم كان يكفيه دور «الحكيم» الذي يدلي من بعيد باستشارات عن مسارات الدولة؟
إجابات هذه الأسئلة تنتمي غالباً إلى خيال سياسي مشغول برغبات هيكل، التي لم يكشف عنها بالطبع، لكن يبقى مؤشر واحد يقول إن شخصاً بذكاء هيكل لم يكن يتوقع لا دور المستشار ولا الحكيم في نظام يحكم مصر على طريقة الحكام أنصاف الآلهة، لكنه بلا مستشار ولا كهنة كبار، بل مجرد أتباع تتضاءل خبراتهم وكفاءتهم كلما تقدم النظام في العمر.
هيكل في الغالب اكتشف هذا من أول لقاء له مع مبارك، لكنه لا يزال في مرحلة اكتشاف موقعه في المسافة بين الجمهورية القديمة وجمهورية تصارع الثورة من أجلها.