غزّة | ما إن تغمض عينيها حتى يسافر بها قطار الزمن. عينان بالكاد يُعرف لونهما، تعيدان لطيفة شعبان مقداد، ابنة الثمانين عاماً، إلى ما قبل ستين عاماً. يومها، كانت تركض أميالاً وأميالاً وسط الحقول وكروم العنب المتدلية عناقيدها، فتلتقطها مع أقرانها من الأطفال وتلعق عسلها،
وهي تلعب معهم «الشريدة»، وسط تعالي ضحكاتهم الصغيرة. فرحة لم تدم طويلاً، ففي ذلك الحين باغتهم الاحتلال في قريتهم «حمامة»، فقتّل منهم ودمّر بيوتهم، فما كان من الشبان الفلسطينيين إلا المناداة بضرورة الدفاع عن الأرض والعرض من قطعان المستوطنين. خرجوا بما يملكون من سلاح أبيض و«طبنجات» بدائية، تاركين خلفهم مختار البلدة ليحمي الأطفال والنساء، لكن الاحتلال لم يوفّره وقتله، لحظة خرج إليهم مستسلماً، ظناً منه أنه بفعله هذا، قد يجنّب القرية مجزرة جماعية.
قتل المختار، فسقط مع جثته الملقاة أرضاً أي أمل يمكن أن يحمي أهالي البلدة بعد مقتل كبيرها وزعيمها، وخلوها من رجالها. انتظروا وانتظرت لطيفة معهم، أملاً في وصول من يعينهم. بعد ساعات من الانتظار، وصلت إلى قريتهم شاحنة عسكرية تابعة للاحتلال. ظنوا أن الموت اقترب منهم، لكنها لم تكن كذلك، فما إن حطّ الجنود رحالهم في القرية، حتى بدأوا يفرغون حمولة شاحنتهم من الأجساد. رموهم على الأرض: أربعين فدائياً، وكان من بينهم عشرة من أبناء عمومتها. كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها الموت يحل في عقر دارها، فكانت تلك اللحظة هي الحاسمة في حياتها وحياة من بقي من أبناء القرية. يومها، كان القرار الصعب: الرحيل من القرية والهروب إلى منطقة أخرى يبقون فيها إلى حين عودة الهدوء إلى ديارهم. لم يكن ظنهم في ذلك الوقت أن الهروب سيطول، لكنه كان، وها هي لطيفة تحتفل بأعوامها الثمانين خارج «حمامة»، في أحد مخيمات اللجوء على كرسي متحرك، تعيش انتظاراً آخر لن ينتهي إلا بعودة الهدوء إلى كل فلسطين إذا أمكن.

بعد ستين عاماً، تروي أم جمال، الأم والجدة، حكاية الرحلة الشاقة من «البلاد» إلى حين الاستقرار في خيم الشاطئ في مدينة غزة. كان الطقس في حينها بارداً جداً، عندما هربت وأبناء قريتها حافية وبملابس رثة، وجسدها يرتجف من الخوف والبرد في آن.
من بلدة حمامة إلى المجدل ومنها إلى قطاع غزة، مشت «العائلات الفلسطينية، أو ما بقي منها بعد المجازر الجماعية». خرجوا من «دون ولا إشي»، باستثناء «بعض الحمير والأبقار التي استعانوا بها للركوب والهروب من السير حفاة»، تتذكر أم جمال. بعد ساعات طويلة من المسير، وصلت تلك العائلات إلى أول محطة: مدينة المجدل. هناك، استراحوا. توزعوا تحت شجر ساحة المدينة الرئيسية، مفرغين حمولتهم بانتظار الشاحنة التي كانت ستقلّهم إلى غزة، مقابل عشر ليرات فلسطينية عن كل فرد. وبما أن الانتظار سيطول والبرد لا يمكن احتماله، عملت بعض الأمهات على دفن أجساد أولادهن تحت الرمال لتدفئتهم، فيما تركت وجوههم ظاهرة.
تكمل أم جمال الحكاية التي لم تستطع السنوات الطويلة محوها من الذاكرة. تقول «أتت الشاحنة وصعدنا كلنا إلى غزة بعدما دفعنا كل ما حملناه معنا من المال، وعندما وصلنا توزعنا على البيوت طالبين النجدة والحماية من القتل على أيدي العصابات الصهيونية التي خفنا من لحاقها بنا». هناك، «أكرمونا بعدما رأوا الخوف في عيوننا»، تتابع. لكن المعاناة لم تنته عند هذا الحد، إذ بدأت الحياة الجديدة من الانتظار: «انتظار عودة الهدوء أو التشرد من جديد وانتظار الكوبونات من وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين التي دشنت لنا أول معسكر من الخيام في المدينة، كما زودتنا ببعض الطعام». وهنا في غزة أيضاً، بدأت تتكون «الجبهات المقاومة للاحتلال، والتي وضعت لنفسها أهدافاً كان أولها استعادة ما سلب منا بالقوة، مستندين إلى الشعار القائل (ما أُخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة»، تقول لطيفة، وهي الأم التي دفعت ابنها البكر جمال للانضمام إلى صفوف المقاومة.
بعد كل هذا الغياب عن قريتها حمامة، لم تنس أم جمال زوايا القرية التي هجرت منها وهي في ريعان صباها. تتذكرها كلها: درب القرية والدار وكروم العنب. وفي محاولة يومية لتمرين ذاكرتها على عدم النسيان وإبقاء حمامة في ذكراة أحفادها الصغار، تنشغل أم جمال يومياً برواية «حكاية ما قبل النوم لهم عن الديار والمقاومة الفلسطينية وعن رغبة أبناء فلسطين المشردين في استعادة أرضهم بأي ثمن». هذه الرغبة التي تبديها أم جمال انتقلت إلى الأحفاد الذين باتوا يفتشون في ما توفر لديهم من كتب عن قرية حمامة التي كانت تعيش فيها الجدة قبل التهجير الكبير عام 1948. وهكذا، فعلت رغدة الحفيدة الصغرى لأم جمال، عندما بدأت هي تقرأ لجدتها عن قريتها من الكتب التي تراها، وترسم لها الصور المستقاة من مخيلتها الصغيرة، مستعيرة بعضها من أحاديث الجدة. تعلّقت تلك الحفيدة بالقرية من دون أن تراها، وهي اليوم تأمل أن تعود مع الجدة إلى الأرض «وأجلس معها تحت دوالي العنب لألعق عسلها وأعيد بناء منزل الجدين».



تقع بلدة حمامة في الجنوب الغربي من ساحل فلسطين، على بعد كيلومترين من الشاطئ، وعلى مسافة ثلاثة كيلومترات من مدينة المجدل شمالاً (مدينة عسقلان أو أشكلون حالياً). تقع أراضي البلدة على شكل مربع من الأرض تقريباً، طول كل ضلع 6 كيلو مترات، أي 36 كيلو متراً مربعاً تعادل 36 ألف دونم. وحسب الموسوعة الفلسطينية، فإن إجمالي أراضي حمامة يزيد على 41 ألف دونم، «ويعود ذلك ربما إلى تغير الملاك وتداخل أراضي البلدات في المنطقة». يقول أهلها إن «حمامة كانت قبل النكبة فلسطينية، أما الآن فقد باتت جزءاً من دولة إسرائيل».