عودة الروح
صحوت صباح التشييع حين رنّ الهاتف بإصرار، انتشلني من خبلي صوت بالعربية لم يتقنها اللسان العبري: «مرحبا، فيكم تربحوا 10 مليون دولار ...»، قطعت الصوت وأغلقت السماعة كمن يقفل باباً بعنف بوجه أحدهم. فأنا أعرف باقي الأسطوانة: باختصار رون أراد طيار إسرائيلي مفقود. فكرت وأنا أنظف أسناني مستعداً للخروج إلى عرس الشهداء الثلاثة: كم هو غبيّ هذا العدو الذي يريد معلومة «مأجورة» عن جندي مفقود في صباح نستعد فيه لتشييع إخوتنا العزل الذين استشهدوا دون أن يستخدموا سلاحاً في عمرهم! صفعتنا دماء إخوتنا التي سالت ثمناً لاجتياز «حقل الألغام» الغامض وعبور السلك الشائك، و«تحرير» مجدل شمس في الجولان لساعات. كأن مخيم اليرموك تخلّص من انسداد شريان القلب والضغط المزمن بفعل استهلاك الأيام والأحداث. تنفسنا اليرموك ونبضنا فرداً فرداً وتجربة تساند أخرى، التقينا لنتنفس عبير الثورات الذي حوصر برائحة جثث الأبرياء لعقود، فتحررنا وانتبهنا لوجه الشبه بيننا وبين قرطاج وطيبة، وبتنا بدورنا مؤمنين بنشيد: «الشعب يريد». انتظرناهم لأكثر من خمس ساعات سبقت موعد التشييع، وكلما سرت شائعة بوصول الجثامين تراكض عشرات الآلاف خارج حدود المخيم، يخيبون ثم يعودون بتظاهرة تهزّ «المحيط والخليج» بشعار غاضب يرتفع كالمغزى: «شيلوا جيش شيلوا جنود، فلسطين ما إلها حدود».
استغل «القائد» لحظة مواراتنا للشهداء في لحدهم «المؤقت»، فانسلّ إلى المنصة وأقرانه، متحيّناً يأسنا وسكوت هتافنا، وحين استعد لاستلال لسانه خاطباً فينا، رميناه بسبابتنا هاتفين ببحة وإصرار: «يكفي يكفي خطابات/ تسقط كل القيادات»، فانسل والبقية، تاركين الساحة لنا ولهتافنا: «الشعب يريد».
بروح الواحد وعقل الجمع نحس، بعدما صرخ المخيم فينا أن «هذه دماء إخوتكم فأكرموها واتبعوها»، في مجدل شمس أضرمت دماء أبناء اليرموك: عبادة وبشار وقيس، النار فينا، فأحرقنا متاعنا وأثاثنا وصار واجباً علينا أن نعود إلى بلادنا تحت الرصاص، تماماً كما خرجنا حين صرنا فجأة لاجئين.

اليرموك ـــ ثائر السهلي

■ ■ ■

كاميـــــرا

بدأت منذ حوالى شهرين دعوة على الفايسبوك حملت عنوان الانتفاضة الثالثة وتدعو إلى الزحف باتجاه فلسطين في ذكرى النكبة، وقد راقت الفكرة العديد: أن تكون هناك عودة في ذكرى النكبة. قطع بعض الشبان مسافات للمشاركة، وكان منهم عبيدة زغموت الذي جاء من الإمارات.
اشترى عبد كاميرا جديدة من الإمارات عن طريق صديق هناك، ومنذ شهرين وهو يبحث عن أحدهم ليحملها له معه. هكذا، علم بقدوم عبيدة فتواصل معه، وأحضرها عبيدة ولم يكن يعلم أن أول حدث سيصوّره عبد هو جنازته هو شخصياً، ونعشه ووجهه المضيء.
وكان عبيدة من الشبان الناشطين في المخيم. أتذكر وجهه جيداً، أبيض ولديه وحمة حمراء على خده. قوي البنية، وغالباً ما يحمل «الهتّيفة» في التظاهرات على كتفيه لقوتهما، وها هو المخيم يحاول رد الجميل. أكثر من مئة ألف شاب يتدافعون ويتزاحمون ليرفعوا نعشك عالياً في سماء المخيم يا عبيدة: أنت ورفيقاك بشار وقيس، كان المخيم كله هناك في تشييعكم. كل المخيم بل أكثر.
امتلأ المخيّم بالناس، كان الجمع مذهلاً. وبدت أصوات الهتافات كأنها صواعق: «الشعب يريد تحرير فلسطين». وكلما اقتربت من الحشود التي كانت هنا من أجلك يا عبيدة، شعرت كم اقترب حلم العودة. لم تكن جنازة، بل كانت أشبه بحلقة صوفية، الكل يهتف ويصفق ويدور ويلوّح بالعلم، ومن ثم ومن شدة الحرارة أمطرت السماء أرزّاً وماءً بلّل الرؤوس والوجوه.
يسحرك المخيم دائماً بوجوه الناس فيه. غالباً ما أسأل عن أسماء من المخيم ولا أعرفها. لكن ما إن أرى الشخص حتى أتعرف الى الاسم. وكأن لأبناء المخيم شيفرة أو علامة لا يتعرف عليها سواهم. في ذلك اليوم، يوم التشييع، رأيت الجميع، كل ما في ذاكرتي من وجوه مرّت أمامي، حتى عبادة لم أعرفه في البداية. لكن ما إن رأيت صورته حتى تذكّرته وتذكّرت وجهه طبعاً. وازددت حزناً عليه شأني شأن كل من عرف عبادة ورفاقه أو لم يعرفهم واكتفى بالتحديق بوجوههم على البوستر، وخاصة نساء المخيم.
■ ■ ■
في مكانها القديم الجديد عند بيت أم إبراهيم، تنهّدت ستّي أم سعدي وقالت: «يه عليي أنا: هالشباب بيحرقوا القلب» وبكت.
اليرموك ـــ حسان حسان