أن يكون بلد بلا رقم رسمي مشكلة، علماً أن التناقض في الارقام الرسمية يعدّ ازمة حقيقية، وخصوصاً إذا كان هذا التناقض يطال المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية التي تعني المواطنين مباشرة، إن كان من ناحية توصيف مشكلاتهم أو تصنيف مؤهلاتهم الحياتية... هذا الواقع ينطبق على الإحصاءات الرسمية في الجمهورية العربية السورية التي تظهر تناقضاً كبيراً في عدد من المؤشرات، فيما تبيّن وجود شرخ بين ما تقدمه وبين الواقع المعيش. مشكلة الرقم في سوريا ليست سراً، إذ نوقشت في العديد من المناسبات، البعض ردها الى تمويه الوقائع، والبعض الآخر للبيروقراطية السائدة في عمل مراكز الإحصاءات الرسمية المختلفة، فيما يلمح البعض الى أيادي الأمن التي تمتد الى الرقم لتغييره منعاً لإحداث بلبلة في الشارع المحلي وأروقة المنظمات العالمية... وبين الرقم الرسمي والواقع ثمة مؤشر ثابت: الاحتجاجات الحاصلة في سوريا لها أسسها الاجتماعية والاقتصادية. وتشير دراسة أعدتها هيئة تخطيط الدولة السورية، بالتعاون مع برنامج الأمم لمتحدة الإنمائي في عام 2004، إلى أن نسبة الفقر في سوريا تصل الى 11.4 في المئة استناداً الى خط الفقر الأدنى. وتزداد هذه النسبة لتصل الى 30.1 في المئة من عدد السكان عند استخدام خط الفقر الأعلى. لكن المكتب المركزي للإحصاء في سوريا أعلن في تشرين الأول 2004 دراسة تحت عنوان «نتائج مسح دخل ونفقات الأسرة السورية»، تُبين أن 7.7 في المئة من عدد السكان فقراء. وبالطبع ارتفعت أعداد الفقراء في سوريا بين أعوام 2004 و2010 لتصبح، بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وهيئة تخطيط الدولة 33.6 في المئة، أي ما يمثل 6 ملايين و700 الف سوري، الا أن الاحصاء المركزي تشبّث بأرقامه المنخفضة، ما أثار اتحاد عمال دمشق ليخرج ببيان يقول فيه: «أرقام المكتب المركزي للإحصاء على مقاس الدول الاسكندنافية».
ولئن كان تحديد حجم الفقر في سوريا صعباً بسبب تناقض الأرقام، فإن أرقام نسب البطالة إعجاز حقيقي، إذ يبلغ حجم القوى العاملة في سوريا 5 ملايين و112 ألف عامل بحسب التقارير الرسمية، أما حجم العاطلين من العمل فيبدأ بـ450 ألفاً وفق الإحصاء المركزي، ليرتفع الى 800 ألف وفق هيئة مكافحة البطالة، وصولاً الى مليون و382 ألف عاطل من العمل وفق اتحاد العمال، ليرتفع الى مليون و400 ألف عاطل بحسب أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية.
وإن كان التناقض «الرقمي» واقعاً في تحديد أهم مؤشرين اقتصاديين للمجتمع السوري، فإن التطابق ما بين الرقم الرسمي والواقع هو أصل الحكاية، فقد حلل اتحاد العمال في دمشق تقريراً للمكتب المركزي للإحصاء في عام 2010 ليرى أن التضخيم لا يطال فقط معدلات البطالة بل ينسحب الى تقديرات النمو، إذ بلغ معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي، حسب المكتب المركزي للإحصاء، 5،24 في المئة، ورأى اتحاد العمال أن «هذا المعدل غير حقيقي»، لا بل هو «معدل نمو وهمي». وحدد تقرير المكتب المركزي للإحصاء معدّل التضخم بـ8،1 في المئة، فيما يشدد اتحاد العمال على أن معدل التضخم قد تجاوز الـ20 في المئة. أما الرقم الأسوأ فكان تحديد نسبة العرض إلى العمل، التي وصلت بحسب المكتب المركزي للإحصاء الى 1،68 في المئة في المتوسط، فيما نسبة الطلب على العمل تكاد تساوي هذه النسبة.
والمؤشرات الاجتماعية غير الواضحة في سوريا، تشير إلى أن الواقع الاجتماعي ليس سوياً، وخصوصاً أن الزيادات التي طرأت على الرواتب في البلد لم تأت متوازية مع الارتفاع السريع لنسب التضخم والتراجع الحاد في القطاعات الانتاجية، وما تبعه من ارتفاع في نسب البطالة، وخصوصاً مع دخول سوريا في زوبعة «الاقتصاد الحر» وفتح الحدود بنحو واسع مع تركيا، ما ضرب القطاعات الانتاجية وخصوصاً الحرفية منها. وهذا الشرخ الحاصل بين القدرة الشرائية والاجور لا يعتمر قبعة الإخفاء أيضاً، اذ يقول اتحاد العمال إن نسبة التضخم ارتفعت بطريقة متواترة منذ عام 2005 فيما كانت نسبة زيادة الاجور زهيدة، نسبة الى الارتفاع المحقق في نسب التضخم، حيث تظهر دراسة فريد الجاعوني، وهو أستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، أنه لكي تصل سوريا إلى مستوى الرواتب والأجور المتناسب مع مستوى التضخم الحاصل في الأسعار، يجب رفع الرواتب بما يعادل 250 في المئة تقريباً.
وإذا أراد المتابع التسليم بالأرقام الرسمية، وعدم الدخول في متاهات الارقام، فلا بد من أن يدور في ذهنه سؤال مركزي: «ما هي المسببات الأساسية لارتفاع معدلات الفقر والبطالة في سوريا؟ وهل الاحتجاجات التي تلفّ المدن والريف السوري لها أسسها الاجتماعية والاقتصادية؟»، نعم يجيب ناشطون سياسيون سوريون، ويشرحون لـ«الأخبار» أن وقف الدعم عن المحروقات في عام 2007 رفع سعر المازوت دفعة واحدة من 6،5 ليرات سورية الى 30 ليرة، ما رفع أسعار 160 سلعة أساسية على المواطن السوري، بينها النقل والري وتأمين التدفئة، وبالتالي استفاق السوريون على ارتفاع في أكلاف النقل وكذلك في معظم المواد الغذائية المزروعة. ويلفت الناشطون الى أن الحكومة السورية دعمت الأسر لشراء المازوت لزوم التدفئة خلال السنوات الماضية، الا أن قيمة الدعم بدأت تنخفض تدريجاً لتصبح زهيدة جداً هذا العام. ويرى الناشطون أن قضية دعم المازوت هي من المطالب الاساسية للسوريين، لافتين الى أن هذا الموضوع أدى الى زيادة الحنق العام لدى السكان، وكان له تأثيره الواضح في الشارع. ويلفت الناشطون الى أنه في عام 2007 أي بالتزامن مع رفع الدعم الحكومي عن المحروقات، انخفضت الحرارة في درعا الى 11 ما دون الصفر. ويلفتون الى أن أهالي دير الزور والحسكة يعانون من تراجع كبير في النشاط الزراعي، بسبب الجفاف الذي يضرب المنطقة منذ نحو 7 سنوات. ويشيرون الى غياب خطة زراعية وخطة ري تعيد للقطاع والعاملين فيه الزخم لتأمين استمراريتهم.